لم تحصل تركيا ربما على أي شيء حقيقي مما كانت تطلبه من شركائها في أستانة وسوتشي. فلا تمّ إطلاق يدها في منطقة عفرين التابعة لمحافظة حلب، والتي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري للكردستاني)، ولا أعلن الكرملين بشكل نهائي استبعاد الأخير من مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده في سوتشي، وهو الأمر الذي أكده قبل أيام المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، بالإشارة إلى رغبة موسكو في حضور الاتحاد الديمقراطي إلى المؤتمر.
وعلم "العربي الجديد"، من مصدر تركي مطلع، أنّ الروس استمروا بابتزاز تركيا في ما يخصّ مخاوفها على أمنها القومي من العمال الكردستاني لصالح الضغط على أنقرة لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، بالقول: "إن هذا الأمر ليس بالجديد، منذ محادثات أستانة 6 التي تناولت منطقة خفض التصعيد في إدلب، والروس يحاولون الضغط لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، الأمر الذي ما زالت أنقرة تقاومه". ومنذ بدايات عملية أستانة وما تلاها من إجماع دولي على استمرار الأسد في السلطة، سواء في المرحلة الانتقالية أو كذلك ضمان حقه في الترشح لفترة رئاسية جديدة في حال تمّ التوصل لحل سياسي للأزمة السورية، استمر الموقف التركي بالتحوّل التدريجي في ما يخص انتقاد النظام السوري، لصالح التوقّف عن الدعوة إلى رحيل الأسد، إذ إن الإدارة التركية وجدت نفسها وحيدة بعد التخلّي العربي الرسمي عن الثورة السورية، وبالذات تخلّي السعودية عما اعتبرته معركة خاسرة ضد إيران في سورية، وما تلاه من عدم استجابة أميركية للضغوط التركية، والاستمرار في دعم عدو الجمهورية التركية الأوّل أي العمال الكردستاني بجناحه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي.
وبدا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، واضحاً، في ما يخصّ أهداف قمة سوتشي والآليات التي سيتم اتخاذها. كذلك شدّد على أنّ قائمة المدعوّين لمؤتمر الحوار الوطني سيتم ترتيبها بالتوافق بين الضامنين الثلاثة. ولم يشر أردوغان في التصريحات التي أدلى بها للصحافيين الأتراك الذين رافقوه إلى القمة إلى رحيل الأسد، بل أطلق تصريحات أقرب للخطاب الروسي الإيراني، الذي يؤكد أنّ السوريين هم من يقرّرون مصير بلادهم.
وبينما شدّد أردوغان على الرفض التركي القاطع لمشاركة الاتحاد الديمقراطي في مؤتمر الحوار الوطني، أضاف "ننتظر من المؤتمر أن يساهم في تثبيت وقف إطلاق النار ومناطق خفض التصعيد، وكذلك لدينا هدفان أساسيان: الأول كتابة دستور جديد، وهذا أمر اتفقنا عليه، إذ إنّ البعض كان في السابق يرى بأن إصلاح الدستور الحالي كافٍ، والآن تمّ قبول فكرة كتابة دستور جديد. ولتحقيق هذا ستعمل وزارات الخارجية وقيادات الأركان والاستخبارات بشكل جامع، ومن الممكن أن يتم العمل على هذا الأمر مع هيئة من التكنوقراط. أما الهدف الثاني فهو الذهاب إلى انتخابات عادلة وشفافة بمراقبة الأمم المتحدة، وفي هذه العملية سيتم العمل على إيجاد الظروف التي تسمح بإظهار الإرادة الحرة للسوريين. وبالمعنى الأوسع، يجب على السوريين، سواء في الداخل أو في الخارج في أي مكان، أن يقوموا بتحديد مستقبلهم".
وأشار أردوغان إلى أنه "من الممكن العمل على الخطوات التي من شأنها بناء الثقة، كالإفراج عن المعتقلين وإزالة الألغام وإيصال المساعدات الإنسانية"، مؤكداً أنه في حال وجدت الحاجة فإنه من الممكن أن يتم عقد قمم أخرى كقمة سوتشي، ستكون إما في إسطنبول أو أنقرة والتي تليها في طهران.
وعلى الرغم من التصريحات السابقة للرئيس التركي، والتي شدّد فيها على عدم وجود نوايا تركية في تطبيع العلاقات مع النظام السوري، ترك، هذه المرة، الباب مفتوحاً في المستقبل للقيام بمثل خطوة كهذه، بالقول: "ماذا يمكن أن يحصل غداً، هذا أمر يتعلّق بالظروف في ذلك الوقت، في هذا الموضع ليس أمراً صحيحاً للغاية أن نحسم بعدم إمكانية حدوث شيء ما. كما تعلمون، إن أبواب السياسة تبقى مفتوحة حتى اللحظة الأخيرة"، نافياً وجود أي علاقات، ولو عبر وسطاء، مع النظام السوري في الوقت الحالي.
وبدا الابتزاز الروسي واضحاً، على صعيدين، الأول التطبيق الجزئي لمنطقة خفض التصعيد وجرّ رِجل الأتراك إلى إدلب بأمل ضرب الكردستاني في أنقرة ومن ثمّ عدم السماح بالاستمرار، والثاني من خلال تأكيد الكرملين أنه ما زال يرى ضرورة دعوة الاتحاد الديمقراطي إلى مؤتمر الحوار الوطني، في الوقت الذي أبلغ فيه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الرئيس التركي، في قمة سوتشي، بأن حليف موسكو، أي الأسد، لا يود أيضاً رؤية الاتحاد الديمقراطي على الطاولة.
وأكد أردوغان ذلك بالقول: "بطبيعة الحال شاركنا (بوتين حول اجتماعه مع الأسد) بعض الأمور، ولم يشارك بعضها الآخر. على سبيل المثال، قال إن الأسد أيضاً ينظر إلى حزب الاتحاد الديمقراطي بشكل سلبي، وهو لا يود أن يكون الاتحاد الديمقراطي على الطاولة، وهذا ليس بالأمر الغريب. في تركيا ليست لدينا أية مشاكل مع إخوتنا الأكراد، بل مشكلتنا مع التنظيمات الإرهابية، ولكن النظام السوري منذ البداية، دعكم من الاتحاد الديمقراطي، لا يقبل بوجود الأكراد، ولا يمنحهم الجنسية".
وتمكّن النظام السوري من خلال اللعب على التوازنات الإقليمية والعالمية من تجنّب السقوط، بل والاستمرار في الحكم وصولاً لاستعادة شرعيته مع جميع دول الجوار السوري، سواء الأردن أو لبنان أو العراق، التي ما زالت تتبادل السفراء مع دمشق. وتبقى تركيا، على الرغم من وجود قنوات استخباراتية بينها وبين النظام، الدولة الوحيدة في الجوار السوري التي لا تعترف بشكل كامل بشرعية النظام السوري، إذ يلعب الأخير على وتر العمال الكردستاني وعدم التعاون الأميركي مع أنقرة للدفع في اتجاه تطبيع العلاقات.
ويرى مراقبون أن الخطوات التركية المقبلة ستعتمد بشكل رئيسي على الموقف الأميركي ومدى تعاونه مع أنقرة في ما يخصّ مخاوفها من الجناح السوري للكردستاني. وبعد ترك الرئيس التركي الباب مفتوحاً في وجه التطبيع المستقبلي مع النظام أعاد توجيه انتقادات شديدة لاستمرار تدفّق السلاح الأميركي، معبراً عن رغبته في الحوار مع واشنطن في هذا الأمر.
ويبدو أن الضغوط التركية على واشنطن، في ما يخصّ شراءها نظام "إس 400" الصاروخي وخرقها نظام التسليح الغربي، لم تنتج حتى الآن أي ثمار في ما يتعلّق بدعم واشنطن للكردستاني في سورية. لكن لا يبدو التطبيع، إن حصل، أمراً سهلاً، لأنه سيشبه إعلان هزيمة مبطّناً، وسيحتاج إلى كثير من الترتيبات والاتفاقات على مختلف الصعد، بما في ذلك عودة اللاجئين السوريين وقضايا أخرى، وربما حصة أنقرة من إعادة الإعمار في سورية.
وبينما يبدو النظام راغباً بشدة في هذا الأمر، تظهر أنقرة، على الأقل من خلال التصريحات الرسمية، في موقف المتردّد، لأسباب كثيرة، يأتي على رأسها التنازلات التي ستضطر إلى تقديمها، إلى جانب التساؤلات المتعلّقة بقدرة النظام السوري على لجم الكردستاني في سورية، وكذلك فقدان الإدارة التركية لأي أمل في حدوث تجاوب أميركي معها في ما يخصّ العمال الكردستاني في سورية.