لكن إعلان أمس، تحديداً في ما يتعلق بالمساهمتين السعودية والإمارتية، بدا أنه نتاج الجهد الذي قاده ماكرون بنفسه، وتطلب منه زيارة البلدين خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وكان قصر الإليزيه قد أعلن صراحة في 11 نوفمبر الماضي أن ماكرون طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مساعدة مالية للقوة العسكرية المشتركة بين الدول الخمس بمنطقة الساحل الأفريقي، وذلك بعد يومين من اجتماعه به في الرياض، بعد زيارة خاطفة تقررت على نحو مفاجئ في أثناء وجود الرئيس الفرنسي في الإمارات لافتتاح متحف اللوفر - أبوظبي.
ويطرح هذا المسار الفرنسي تساؤلات عدة حول الاستراتيجية الفرنسية في منطقة الساحل خلال الفترة المقبلة، كما يعيد إلى الأذهان الموقف الجزائري الحاسم في رفض جميع الضغوط التي مارستها فرنسا على الجزائر لزيادة تعاونها العسكري والأمني مع دول الساحل وغرب أفريقيا إلى مستوى مشاركة ميدانية لقوات الجيش الجزائري في العمليات القتالية، على الأقل في شمال مالي، القريبة من الحدود الجزائرية والتي غابت عن اجتماع أمس الذي عقد بمشاركة ماكرون ونظرائه في دول الساحل الخمس، المالي إبراهيم بوبكر كيتا والنيجري محمدو يوسفو والبوركيني روش مارك كريستيان كابوري والتشادي إدريس ديبي والموريتاني محمد ولد عبدالعزيز. كما حضر شركاء القوة المشتركة، الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيسا الحكومتين الإيطالي باولو جنتيلوني والبلجيكي شارل ميشال، فيما كانت لافتة مشاركة السعودية والإمارات العربية المتحدة.
توقيت الاجتماع
ووضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون توقيت الاجتماع، الذي عقد على هامش استضافة فرنسا لـ"قمة الكوكب الواحد"، في سياق "الوضع الأمني الميداني الملح"، إذ "سجل الإرهابيون انتصارات عسكرية ورمزية في الأشهر الأخيرة". وقال ماكرون، في مؤتمر صحافي بعد القمة، إنه "يجب أن نكسب الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل - الصحراء". وأضاف "تقع هجمات يومياً. هناك دول حالياً معرضة للخطر... علينا أن نكثف جهودنا".
كما أكد الإليزيه أن الهدف من الاجتماع هو "زيادة التعبئة لمصلحة دول الساحل الخمس، على الصعد العسكرية والسياسية والمالية".
وفي تصريح صحافي، قالت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي: "إنها مبادرة تكتسب زخماً" لكن بوتيرة مختلفة. وأضافت "يجب المضي بوتيرة أسرع. الهدف هو أن نتمكن من إحراز تقدم على صعيد تمويل الجانب العسكري وتنظيمه".
وكانت قوات الأمن وبعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أهدافاً رئيسية للجهاديين في منطقة الساحل. وقتل أربعة من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وجندي من مالي في هجومين في مالي قبل أقل من شهر. وفي النيجر، لقي 13 جندياً حتفهم في أكتوبر/ تشرين الأول، بعد أسابيع من مقتل أربعة جنود أميركيين وأربعة جنود من النيجر في منطقة بالنيجر. كما شهدت بوركينا فاسو هجوماً في أغسطس/ آب أسفر عن مقتل 18 شخصاً في مطعم راق في عاصمتها واغادوغو.
وتشير تقديرات المسؤولين الفرنسيين إلى أن عدد المتطرفين لا يزيد عن 1000 شخص مقارنة بعدة آلاف في شمال مالي في عام 2013 عندما تدخلت فرنسا. لكن الأرقام خادعة، ما يعكس خطر وصعوبة مطاردة العدو في منطقة شاسعة بحجم أوروبا تغطيها الصخور والتضاريس الصعبة.
لكن ما لا يمكن إغفاله أن المبادرة تأتي بعد ما يقرب من خمس سنوات على تدخل فرنسا لقتال المتطرفين في شمال مالي، الذي كان يسيطر عليه حينئذ فرع تابع للقاعدة، لكن التدخل الفرنسي لم ينجح في احتواء الجهاديين بعدما انتشر التهديد إلى البلدان المجاورة في المنطقة المضطربة. كما أنه فرّخ جماعات جهادية جديدة، بما في ذلك تلك التي تدعي الانتماء إلى تنظيم "داعش".
العبء المالي
وتسير الجهود السياسية والعسكرية الفرنسية لتأمين اكتمال عديد القوة الجديدة وتدريبها مع مواجهة ما تراه باريس "تحدياً مالياً"، على اعتبار أن بلدان دول الساحل الخمس، من بين أفقر البلدان في العالم، ولذلك فهي غير قادرة على تأمين 250 مليون يورو للقوة في مرحلة أولى، ثم "400 مليون في أثناء الممارسة التامة". ضمن هذا السياق، ركزت فرنسا جهودها على تأمين أوسع قدر من الدعم المالي، لكن الاستجابة للدعوة كانت متفاوتة. فقد وعد الاتحاد الأوروبي بـ50 مليون يورو، وفرنسا بـ8 ملايين (معدات خصوصاً)، وكل من البلدان الخمسة المؤسسة بـ10 ملايين، أما الولايات المتحدة فوعدت البلدان الخمسة الأعضاء في مجموعة دول الساحل الخمس بمساعدة ثنائية شاملة تبلغ 60 مليون دولار، فيما قدمت السعودية المبلغ الأكبر المتمثل بـ100 مليون دولار.
وهو ما يفسر إبداء وزيرة الجيوش الفرنسية ارتياحها بشأن القدرة على تأمين أول 250 مليوناً، خصوصاً بعدما شكلت المساهمتان السعودية والإمارتية أكثر من نصف المبلغ المطلوب للمرحلة الأولى. وينتظر أن تستكمل الجهود الفرنسية في القمة التي ستعقد في فبراير/ شباط المقبل، والتي تراهن فرنسا عليها لإمكانية منح دور أكبر إلى بلدان أفريقية أخرى غابت عن اجتماع أمس، مثل السنغال أو الجزائر، التي تضطلع بدور أساسي في المنطقة من خلال حدودها الطويلة مع ليبيا ومالي.
أهداف القوة
وكانت القوة المكونة من خمس دول والمعروفة باسم "مجموعة 5 للساحل"، أطلقت في باماكو بمالي في 2 يوليو/ تموز، بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وهي تهدف إلى التصدي للتهديد الجهادي والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر.
القوة المكونة من جنود من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا وتشاد ستنمو لتضم خمسة آلاف جندي قوي بحلول مارس/ آذار، لكنها لا تزال في حاجة إلى جنود، وتدريب وحكم ذاتي عملي وتمويل.
وستركز القوات في البداية على المناطق الحدودية المشتركة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث قادت أول عملية لها في نوفمبر/ تشرين الثاني، وحيث تركزت هجمات عديدة.
ويقضي دورها باستعادة المناطق التي تقوم منها المجموعات الإرهابية "بتحركات مفاجئة" قبل أن تتلاشى في الصحراء الساحلية المترامية، الأوسع من أوروبا، وفرض الأمن فيها. ولديها حتى الآن مقر قيادة في سيفاري بمالي. لكن مهمتها لن تكون سهلة، وهو ما أشارت إليه مجموعة الأزمات الدولية، في تقرير أصدرته أول من أمس، الثلاثاء، إذ قالت إن هذه القوة هي "جزء من هذه القوى الأفريقية للجيل الجديد، التي تزيد من فرض نفسها في إطار دولي يتسم بتلاشي المفهوم الأممي لحفظ السلام، غير المتناسب مع نزاعات يشكل الإرهاب أحد مكوناتها الأساسية". وفيما أشار التقرير إلى أن عدد الجهاديين لا يتعدى بضع مئات، بين 500 و800 كما تفيد التقديرات، لكنهم يحتفظون بقدرة على إضعاف دول ضعيفة في طليعتها مالي. وبحسب التقرير، فقد طرد القسم الأكبر من هؤلاء المقاتلين من جراء التدخل العسكري الدولي الذي أطلق في يناير/ كانون الثاني 2013 بمبادرة من فرنسا، التي ما زالت تستنفر 4000 رجل في إطار عملية برخان. لكن هذا الصراع قد أضعفته "إخفاقات" عملية السلام في مالي التي تجد صعوبة في مصالحة مختلف أطراف جنوب البلاد وشمالها.