لم يكن حاكم البيت الأبيض الجديد، دونالد ترامب، أوّل رئيس منتخب يُظهر نيّة للتعاون مع روسيا مطلعَ ولايته، فالرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، التقى فلاديمير بوتين لدى فوزه برئاسة الولايات المتّحدة، وخرج إثر اللقاء ليصرّح أنّه استطاع أن "ينظر في عيني بوتين ويتلمّس روحه". الأمر ذاته بالنسبة لباراك أوباما، الذي أعلن عزمه على "إعادة تشكيل" العلاقات مع موسكو، قبل أن ينتهي الأمر بضم الأخيرة شبه جزيرة القرم، وبحرب إلكترونية أفضت إلى قرصنة خوادم حزبه الديمقراطي.
لكن ترامب، بالرغم من ذلك، يريد الذهاب أبعد من سابقيه في علاقته مع أبرز منافسيه على الساحة العالميّة، وصولًا إلى بناء تحالف استراتيجي جديد كلّيًّا مع روسيا. تحالف تراه مجلّة "إيكونومست" قائمًا على تعاون الولايات المتّحدة مع روسيا في القضاء على "الإسلام الراديكالي"، مقابل تخلّي الأخيرة عن إيران، وفق ما يرد في مقال لها أمس السبت. السؤال الذي تطرحه المجلة، في هذا السياق، هل يمكن أن ينجح ترامب في ذلك؟ أم سيكون ثالث رئيس أميركي على التوالي يقع فريسة لـ"احتيال" بوتين؟
انقسام داخل البيت الأبيض
المعلومات حول مسألة إعادة تنسيق العلاقات مع روسيا تظلّ غامضة وقابلة للتغيير بالنسبة لإدارة ترامب الحالية، كما يقول معلّق المجلّة، معتبرا أن هذا الأمر يعود، جزئيًّا، إلى الخلافات ضمن دوائره الداخلية. أحد الشواهد على ذلك هو أنّه حينما قدّم سفير واشنطن لدى الأمم المتحدة "إدانة واضحة وقويّة" تجاه "أعمال روسيا العدائية في أوكرانيا"؛ كانت العلاقة بين ترامب وبوتين لا تزال حيويّة.
ويقدّم معلّق المجلة دليلًا على تلك "العلاقة الحيويّة" من خلال تصريحات ترامب خلال لقائه مع قناة "فوكس نيوز" الأسبوع الماضي، وتحديدًا حينما بادر محاوِر القناة بالقول إن "بوتين قاتل"، قبل أن يأتي ردّ الرئيس الأميركي سريعًا: "هناك الكثير من القتلة، هل تعتقد أن بلادنا بريئة؟".
ويرى معلّق الصحيفة أن مثل هذا التصريح من ترامب يعتبر بمثابة هديّة للبروباغندا الروسية، وأن اعتقاد ترامب بامتلاك روسيا أمورًا كثيرة يمكن أن تقدّمها للولايات المتّحدة هو سوء تقدير ليس لقوّة ومصالح روسيا فحسب؛ بل لقيمة ما يمكن أن تتخلّى عنه واشنطن في المقابل.
عرّاب الصفقات يواجه قيصر الاحتيالات
وفي سياق لما يثار حاليًّا حول العلاقة الملتبسة بين ترامب وبوتين، يعتقد معلّق المجلّة أن مضمون الصفقة بين كليهما سيكون على النحو التالي: تعاون أميركي مع بوتين للقضاء على "إرهاب الإسلام الراديكالي"، وتحديدّا "الدولة الإسلاميّة" (داعش)، مقابل تخلّي روسيا عن تعاونها مع إيران، العدو القديم للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ومصدر التهديد الرئيسي لحلفائها.
إلى جانب ذلك، من المفترض أن يطلب ترامب من نظيره الروسي الكفّ عن إثارة الصراع في أوكرانيا، والموافقة على عدم التعرّض لأعضاء حلف شمال الأطلسي "الناتو" على حدودها، وربّما الدخول في محادثات للحدّ من الأسلحة النووية.
وعلى المدى الطويل، كما يرد في تقرير المجلّة، يتطلّع ترامب إلى أن يساهم توثيق العلاقات مع روسيا في الحد من التوسّع الصيني، وهو يمثّل إحدى الأولويّات بالنسبة لطاقم البيت الأبيض الجديد، والأشدّ حماسة لذلك هو مستشار ترامب الأكثر مدعاة للقلق، وفق تعبير المجلّة، ستيفان بانون، الذي سبق له أن صرّح العام الماضي بأنّه "لا يشكّ" في أن بلاده ذاهبة نحو حرب في بحر الصين الجنوبي في غضون خمس إلى عشر سنوات.
تحالف الشك
قد تكون القرصنة الروسية، التي سبقت الانتخابات، قد ساعدت ترامب كثيرًا في مسيرته نحو البيت الأبيض، لكن ذلك لا يعني أن الأخير يثق في بوتين، فمصالح الكرملين والبيت الأبيض في عالمين متباعدين، كما يقول محلّل المجلّة، وأحد الشواهد على ذلك يمكن أن نراه بوضوح في سورية على سبيل المثال، حيث أثار بوتين ضجّة كبيرة حول محاربة إرهابيي "داعش"، لكنه لم يفعل ذلك عمليًّا.
تبعًا لذلك، لربّما تكون حصّة بوتين من صفقة التعاون مع أميركا هي تأمين الوجود العسكري الروسي بشكل دائم في الشرق الأوسط عن طريق دعم بشار الأسد. لا شيء من ذلك جيّد بالنسبة لسورية، كما يرى كاتب المقال، مضيفًا أنّه حتى لو تشارك بوتين وترامب هدفًا واحدًا (وهو ما لم يحصل)، ولم يمانع الأميركيون في أن يصبحوا شريكًا في أعمال روسيا الوحشيّة؛ فإن القوات الأميركية والروسية غير مؤهّلة للقتال بسهولة جنبًا إلى جنب، ذلك بأنّ أنظمتها الداخليّة لا يمكنها أن تتلاقى سويًّا، لجهة أنّ ذلك يتطلّب مشاركة أسرار عسكرية ينفق "البنتاغون" مليارات حتّى يبقيها محميّة.
وعلى هذا النحو، يرى محلّل "ذي إيكونومست" أنّ روسيا ليست على استعداد لمواجهة إيران، فمليشياتها المنتشرة على الأرض السورية تعتبر مكمّلة للقوة الجوية الروسية، كما أنّها تعتبر سوقًا واعدة بالنسبة للصادرات الروسية، والأهم أن كلا البلدين الجارين لا يألوان جهدًا في العمل سويًّا من أجل إدارة الشرق الأوسط، وليس الصراع عليه.
ويضيف كاتب المقال أنّ فكرة التحالف مع روسيا لمواجهة الصين هي أقلّ واقعيّة من الأولى، فروسيا أضعف بكثير من الصين، مع اقتصاد متدهور، وعدد سكّان أقلّ، وجيش أصغر. وفقًا لذلك، لا يملك بوتين القوّة ولا الرغبة في التصادم مع بكين، فضلًا عن أنّه يثمّن التجارة المتبادلة معها، ويتقاسم معها المخاوف التي تقع على رأس قائمة قادتها العسكريين. يظهر ذلك، مثلًا، من خلال ميله لمشاكسة جيرانه الأوروبيين، ورفض المحاضرات الغربيّة حول قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
متمرّدان على النظام العالمي!
لكن الأخطر من بين "الحسابات غير الدقيقة" تلك كلّها، كما يرى محلّل المجلّة، يكمن في التعامل مع أوروبا، فقائمة رغبات بوتين المفضّلة هناك تنقسم إلى ثلاثة مستويات: مستوى الأمور التي لا يمكن أن يحصل عليها إلا إذا تصرّف على نحو أفضل، مثل رفع العقوبات الغربية عن بلاده؛ ومستوى الأمور التي لا ينبغي أن يتحصّل عليها في مختلف الظروف، مثل الاعتراف بسيطرته على الأراضي الأوكرانية؛ ومستوى الأمور التي من شأنها أن تقوّض النظام العالمي القائم على قواعد ثابتة، مثل تواطؤ الولايات المتّحدة في إضعاف حلف "الناتو".
عطفًا على ذلك، سيكون بوتين سعيدًا، على الأقل، إذا منحه ترامب حرّيّة أكبر في "محيطه القريب"، وقد يتحقّق ذلك، مثلًا، من خلال سحب الدفاعات الأميركية في أوروبا، ووقف توسّع "الناتو" من خلال ضمّ دولة الجبل الأسود إلى قائمة أعضائه، والذي من المقرّر أن يتمّ هذا العام.
يبدو أن ترامب لا يدرك حجم هذه التنازلات وخطورتها، كما يقول معلّق المجلّة، فيما هو ماضٍ في إطلاق إشارات متضاربة حول قيمة حلف "الناتو"، وتحديدًا حينما وصفه بأنّه قد "عفا عليه الزمن" في الشهر المنصرم، قبل أن يتعهّد بدعمه الأسبوع الماضي. بعض مستشاريه لا يبدون اهتمامًا إزاء إمكانية تفكّك الاتحاد الأوروبي، حالهم كحال بوتين؛ بل إنهم يتبنّون قادة مثل مارين لوبان التي لا تريد أكثر من ذلك.
حتّى ستيف بانون ذاته، الذي يقرّ بأنّ روسيا هي عبارة عن حكومة لصوص، يرى بوتين جزءًا من الثورة العالمية التي يقودها القوميّون والتقليديّون ضدّ النخبة الليبرالية، وهو ما يجعله، تبعًا لذلك، حليفًا طبيعيًّا لترامب.
(العربي الجديد)