يندرج جزء كبير مما أقدمت عليه السلطات الهولندية بمنع هبوط طائرة وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، وإبعاد وزيرة الشؤون الاجتماعية والأسرة، فاطمة بتول سايان كايا، يوم السبت الماضي، في خانة الصراع الحزبي الداخلي من أجل حصد أكبر عدد من أصوات الناخبين، في انتخابات عامة ستجري غداً الأربعاء. مؤشر الأزمة التي وصلت حد وصف هؤلاء المراقبين لما جرى خلال اليومين الماضيين باعتباره "خرقاً لأعراف دبلوماسية بحجة الأمن"، انعكس على خطاب وتصرفات سياسية داخلية في أكثر من بلد في شمال أوروبا. ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته، الذي ينافسه السياسي الشعبوي من حزب "الحرية"، غيرت فيلدرز، أراد بتصرفه "الأمني" أن ينزع من الأخير ورقة "التصريحات القوية" والمزايدات، ليبدو وكأنه لا يقع تحت ضغط ما يسميه فيلدرز "الفاشية الإسلامية". وهذا الوصف الذي يستخدمه فيلدرز لم يعد يصيب فقط "الحركات الإسلامية المتشددة"، إذ وصل الخطاب إلى مستوى بات يطاول رئيس دولة أخرى (رجب طيب أردوغان)، كانت تقف طيلة عقود على أعتاب التفاوض لدخول "نادي الأوروبيين" والحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي.
وبلغت الأزمة حد تهديد أوساط تركية بلغة غير دبلوماسية، مع القول إن "الجيش الهولندي تعداده 48 ألف فرد، بينما جاليتنا أكثر من 400 ألف"، في إشارة إلى المواطنين الهولنديين من جذور تركية. وقد تصدى فيلدرز لهذه الفكرة مستغلاً إياها في حملته الانتخابية التي توقفت في المناطق والمدن عملياً منذ الشهر الماضي لدواعٍ أمنية، واستمرت فقط على مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت. وسرعان ما تم نشر تغريدة جاء فيها: "فليتذكر الأتراك بأن الـ40 ألفاً هم جيش مسلح". صحيح أن الأمر يتعلق برد صادر عن مؤيدي فيلدرز على صفحته في "تويتر"، لكنه يحمل الكثير مما قد يفجر العلاقات بين الأتراك مزدوجي الجنسية، وسياسات الدول التي يقيمون فيها، وهولندا قد تكون نموذجاً في هذا الشأن.
بقراءة بسيطة لمجريات تفكير اليمين الشعبوي، يتبيّن أن الأزمة التركية الهولندية، المعبّر عنها بهذا التراشق، أتت كفرصة يبحث عنها هذا التيار الأوروبي الذي يكثر من اتهاماته لمنافسيه وللأحزاب التقليدية الحاكمة، بالضعف أمام أردوغان، منذ توقيع اتفاقية ترحيل اللاجئين. ولم يكتف فيلدرز، بوصفه سياسياً هولندياً مثيراً للجدل بسبب مواقفه العدائية تجاه المسلمين والمهاجرين، في اتهام ساسة بلده بالرضوخ، بل ذهب لاتهام مئات الآلاف من مواطنيه من أصل تركي بأنهم "يشكلون طابوراً خامساً في بلدنا"، على حد تعبيره. وهذا القول يحمل معطيات خطيرة جداً لم يسبق أن تنبأ أحد بها. فما يعول عليه فيلدرز في خطابه المتشدد هو حصد المزيد من أصوات الناخبين، ولو على حساب ما يمكن أن ينتجه هذا الأمر من مرارة في صفوف الجاليات التركية التي تصيبها التهم بعدم الولاء للأوطان التي تعيش فيها.
وفي هذا السياق المعقد، وقع رئيس وزراء هولندا، مارك روته، في مطب خطير. فهو من جهة، لن يكون قادراً على تحمل مضاعفات وعواقب سياسات وتصرفات إقصائية بحق الأتراك الهولنديين، ومن جهة ثانية، لم يعد يستطيع التراجع عن خطواته التصعيدية في أيام انتخابية حاسمة. وبذلك، يكون روته قد وقع في الفخ الذي نصبه له فيلدرز، حين وجه اتهامات في الخامس من مارس/ آذار، محذراً من السماح للأتراك بتنظيم مهرجانات سياسية في إطار حشد التأييد في استفتاء إبريل/ نيسان 2017، حول التعديلات الدستورية. هكذا، أتت ردة فعل رئيس الحكومة الهولندية ضد تركيا ووزرائها، ما ألّب عليه الأتراك وبعض الأوروبيين القلقين من اكتساح الشعبويين للساحة.
ويشعر فيلدرز بالمقابل أنه جرّ الحكومة الهولندية وصحافتها إلى مربعه، لا سيما أنه لم يظهر منذ الشهر الماضي في تجمعات انتخابية، واختار وسائل التواصل الاجتماعي لتكون منصته الأفضل لبث مواقفه وأفكاره. والدوافع السياسية وراء تأزيم العلاقة مع تركيا لم تعد خفية. فالموقف الرسمي الهولندي الذي اعتبره الأتراك إهانة لهم، يساهم أيضاً في تعقيد واقع أفراد الجالية التركية في هولندا، حتى لو كانوا يحملون جنسية ثانية، وهو مؤشر باتت جاليات أخرى في الغرب تقرأه وتتلمسه.
وعلى الرغم من ذلك، سيكون الخاسر الأكبر في هذه المواجهة، ليس أردوغان، ولا فيلدرز "الذي لن يخسر شيئاً"، بحسب بعض المعلقين، بل رئيس الحكومة الهولندي، مارك روته. هذا ما يجمع عليه عدد من المعلقين الغربيين، سواء في الدول الاسكندنافية، إذ تضامنت كوبنهاغن مع أمستردام بطريقة مباشرة بطلب تأجيل زيارة رئيس وزراء تركيا بن علي يلدريم، أو في ألمانيا وغيرها. ويرى الخبراء أن الحكومة الهولندية اندفعت وراء خطاب شعبوي وقامت "بشراء خطاب فيلدرز" ووقعت في "الفخ" الذي نصبه لها، لأن هناك "أزمة المجتمع المتعدد الثقافات"، ولأن روته أراد أن "يظهر بأنه لا يستسلم لضغوط تركيا واستفزازها"، بحسب البعض. لكن، في المقابل، إن تجربة أحزاب وساسة هولندا والدول الغربية مع اليمين الشعبوي قد يكون ثمنها أكبر مما دفعته حتى الآن. وهو ما ستكشف عنه نتائج صناديق الاقتراع الهولندية.