رائحة الدم تكاد تكون الصفة الملازمة لجميع سجون العراق منذ عقود طويلة، إلّا أنّ سجن بادوش، ثاني أكبر سجون البلاد، والواقع على بعد نحو 30 كيلومتراً إلى الغرب من مدينة الموصل، هو السجن الأكثر دموية بعد سجن أبو غريب الشهير إلى الغرب من العاصمة بغداد. وتخوض القوات العراقية المشتركة، بدعم أميركي، منذ ليلة أمس معارك طاحنة، لاستعادة السيطرة على بلدة بادوش والسجن الواقع على مشارفها، ويخضعان لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) منذ منتصف العام 2014. ورافقت سيرة هذا السجن أحداث مأساوية منذ تأسيسه عام 1979 كسجن مركزي يسع لنحو 5 آلاف نزيل، موزعين على أقسام، تعرف بالثقيلة والخفيفة والسياسية، مروراً بالاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، إذ اتخذه سجناً مركزياً مارس فيه شتى أنواع الانتهاكات والتعذيب، لتنتقل بعدها سلطة إدارته إلى حكومة نوري المالكي في عام 2008، الذي لم تختلف ممارسته عن الأميركيين، وهو ما وثّقته شهادات وتقارير لمنظمات دولية آنذاك.
وانتهت قصة السجن بسيطرة "داعش" عليه، في 14 يونيو/حزيران 2014، وارتكابه مجزرة كبيرة بحق الحراس والسجناء على حدّ سواء، أسفرت عن مقتل نحو 600 حارس وسجين. وجرت عمليات الإعدام على أسس طائفية من قبل عناصر "داعش"، بعد أن أطلق سراح أتباعه، أو الذين هتفوا باسمه لحظة اقتحام السجن، ويقدّر عددهم بنحو 200 سجين، بينهم المتحدث الإعلامي باسم تنظيم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" آنذاك، أبو ميسرة العراقي، وهو من المعتقلين الذين سلّمتهم القوات الأميركية إلى حكومة المالكي بعد انتقال ملف السجون من واشنطن إلى سلطة الحكومة العراقية. ومنذ تأسيسه عبر شركة يوغسلافية وحتى عام 2003، استخدم السجن في تطبيق الأحكام الثقيلة والخفيفة كما يطلق عليها في العراق. ويودع فيه المدانون بأعمال القتل والسرقة والجريمة المنظمة أو تجارة الممنوعات، بالإضافة إلى المعارضين السياسيين والفارّين من الخدمة العسكرية، فضلاً عن الأحداث، ويعرف سابقاً باسم الإصلاح.
وبعد 2003 أطلق عليه اسم "السجن الأميركي"، ثم سمي في عهد حكومة المالكي الأولى بـ"المجمع الإقليمي الإصلاحي في الموصل". وعام 2011 استبدل الاسم بـ"سجن الموصل المركزي"، ومن ثمّ "سجن بادوش" في 2014 قبيل اجتياحه بأسابيع قليلة من قبل "داعش". وتقدر مساحة السجن بأكثر من 12 كيلومتراً مربعاً. وأدى تفجير التنظيم لأجزاء واسعة منه إلى إخفاء أدلة تدين الجلادين الذين تناوبوا على إدارته، مثل الدماء المتناثرة على سقوف الزنازين ووسائل التعذيب المنهجية الدائمة فيها، في سيناريو مشابه لما حدث في سجن تدمر السوري. إلّا أنّ التنظيم أبقى على أجزاء منه لاعتقال مخالفي نهجه. وفي العادة يكون النزلاء سريعي الرحيل، إذ يتم قتلهم بعد أيّام قليلة بطرق مختلفة. وبادوش، التي يقع فيها السجن، هي بلدة موغلة بالقدم، وتحوي آثاراً لحضارات قديمة قبل الإسلام، وتسكنها عوائل مسيحية ومسلمة، جميعها عربية. وذكر الخطيب البغدادي هذه البلدة في كتاب "منية الأدباء" بعبارة "بادوش العامرة أرض البركة إلى الغرب من الموصل، وتبعد عنها مسير نصف نهار".
ويقول الناشط الحقوقي العراقي، محمد جمال الدين، لـ"العربي الجديد"، إنّ "رائحة الدم لم تنقطع في السجن منذ تأسيسه". ويضيف "كل من أمسك بزمام الحكم، مارس شتّى أنواع التعذيب في السجن"، مبيناً أنّ "عدد الذين قتلوا وأعدموا في السجن، منذ تأسيسه وحتى الآن، يقدّر بالآلاف، وبذلك يتفوق على أي سجن آخر في العراق، لكنّ مجازر العراق اليومية تفوق هذا العدد بالتأكيد". وأشار إلى أنّ "التنظيم أخفى معالم وأدلة كان يمكن أن تدين نوري المالكي ومن قبله الأميركيين على ما فعلوه في السجن، لكنّه أيضاً (التنظيم) ارتكب جرائم أكثر بشاعة عند اقتحامه لهذا السجن المشؤوم". ويؤكد عضو المجلس المحلي لبلدة بادوش، ياس نعمة، "وجود رغبة لمحو السجن عن الأرض، وإزالة كل معالمه بعد تحرير المدينة". ويضيف نعمة، لـ"العربي الجديد"، "في هذا السجن الكثير من الظلم والبشاعة"، موضحاً "كان سكان البلدة يخشون المرور في جواره ليلاً، وهم يدّعون أنّهم يسمعون أصوات الضحايا، وأنين سجناء خلال تعذيبهم على يد جلاديهم". وتابع "كان المثقفون في البلدة يعتبرون حديث الأهالي مجرّد خرافة، لكنّ تلك القصص أصبحت اليوم حقيقة، ورائحة دماء الضحايا تعبق في السجن".