تمكن المرشح اليميني إلى الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فرانسوا فيون، من فرض نفسه على حزب "الجمهوريون"، بعد معركة مفتوحة داخل معسكر اليمين، ألقى فيها بكل ثقله في مواجهة لفيف من الشخصيات القيادية والنواب الذين كانوا يطالبون بتنحيه، واختيار مرشح آخر لخوض الرئاسيات باسم اليمين، بسبب غرق فيون في متاعب متواصلة مع القضاء، أدت إلى تدهور شعبيته، وبالتالي قلصت كثيراً من حظوظ اليمين المحافظ بالفوز في الاقتراع الرئاسي المقبل.
وعاش فيون، ومعه اليمين المحافظ، أسبوعاً استثنائياً على وقع أجواء من الترقب والمفاجآت، بدأ الأربعاء الماضي حين حسم الشكوك المخيمة على استمراره في السباق الرئاسي على خلفية قضية "الوظائف الوهمية"، وأعلن أنه لن يسحب ترشحه للانتخابات الرئاسية التي يخوضها باسم حزب "الجمهوريون"، رغم استدعاء القضاة له في 15 مارس/آذار الحالي لتوجيه الاتهام إليه في قضية "الوظائف الوهمية". وغداة هذا الإعلان ساد الاضطراب معسكر اليمين، وتعرضت حملة فيون الانتخابية إلى هزة قوية، بعد أن بلغ عدد النواب الذين تخلوا عنه نحو 250 نائباً ومنتخباً من اليمين المحافظ، خصوصاً مدير حملته الانتخابية، باتريك ستيفانيني، والمتحدث باسمه، تيري سولير، بالإضافة إلى الشخصية اليمينية القيادية، برونو لومير.
ويوم الجمعة الماضي ساد اعتقاد قوي بنهاية سياسية وشيكة لفيون، بعد أن دخل الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، على الخط، وهاتف فيون ليؤكد له أن ترشحه للرئاسيات "بات غير مقنع، وأن مصداقيته داخل الحزب بدأت تتهاوى" بسبب متاعبه القضائية. وصعّد التيار المقرب من المرشح السابق للتمهيديات ألان جوبيه من انتقاداته لفيون، وطالب علناً بتنحيه واللجوء إلى جوبيه ليحل محله. وفي مواجهة الزلزال الذي بدأ يهز قواعد الحزب وقياداته، دعت اللجنة السياسية إلى اجتماع استثنائي لكل قيادات الحزب لتدارس قضية فيون، مع تلويح مبطن أن هذا الاجتماع قد يكون مناسبة لطي صفحة فيون نهائياً. غير أن الأخير لم يستسلم للضغوط، ولجأ إلى الشارع في مواجهة الأجهزة الحزبية، ودعا إلى تجمع في ساحة تروكاديرو الأحد الماضي للتعبير عن "إرادة الشعب ضد النظام القضائي" ومن أجل إظهار شعبيته، وإنقاذ ترشحه إلى الانتخابات. وبالفعل نجح فيون في استقطاب آلاف الناخبين إلى الساحة، وألقى خطاباً حماسياً أمام أنصاره، ووجه رسالة مباشرة إلى عائلته السياسية، أعاد فيها التأكيد على إصراره خوض الرئاسيات مهما بلغت درجة متاعبه مع القضاء. وهاجم فيون القضاء والإعلام بعنف شديد، بلغ حدّ الشعبوية "المائعة" التي تلجأ إليها عادة زعيمة حزب "الجبهة الوطنية" مارين لوبان. كما هاجم الشخصيات والنواب اليمينيين الذين تخلوا عنه في الأسابيع الأخيرة. ووجه تحذيراً مباشراً إلى الذين يطالبونه بالتنحي، والتخلي عن ترشحه للرئاسة، مؤكداً أن "لا حق لهم في اختيار أي بديل، ما دام شعب اليمين والوسط قد صوت له بكثافة في الانتخابات التمهيدية" التي فاز بها.
وبدا فيون رغم كل المثبطات واثقاً من نفسه إلى درجة مثيرة للاستغراب. وكرر، في حوار مباشر مع القناة التلفزيونية الثانية ليل الأحد، تشبثه بخوض الرئاسيات مهما كان الثمن، مندداً بتعرضه "لمحاولة اغتيال سياسية". وبلغ مسلسل فيون ذروته صباح الإثنين مع إعلان جوبيه قراره عدم الترشح باسم اليمين، مخيباً آمال الذين كان يأملون بعودته بديلاً عن فيون. وفي يوم واحد فقد الحديث عن خطة بديلة في معسكر "الجمهوريون" مصداقيته. وقام مقربون من ساركوزي بمحاولة أخيرة قبل اجتماع اللجنة السياسية الحاسم، وطلبوا من فيون أن يختار بنفسه "خلفاً" له، عارضين عليه ما يشبه "تسوية" أخيرة. غير أن فيون لعب هذا الشوط الأخير بدهاء، واستفاد من التناقضات بين معسكري جوبيه وساركوزي برفضه القاطع لهذه التسوية، لكونه قام سلفاً بتحييد الخلف الذي كان معسكر ساركوزي يأمل فيه، وهو وزير الاقتصاد السابق ورئيس بلدية مدينة تروا حالياً، فرانسوا باروان، الذي كان تفاهم معه سلفاً على منحه منصب رئيس الوزراء في حال فوزه بالرئاسيات، وكان أصر أن يقف خلفه على منصة تجمع تروكاديرو خلال إلقاء خطابه. وخلال اجتماعها الاستثنائي ليل الإثنين، وجدت اللجنة السياسية، بتياراتها المختلفة ورئيسها جيرار لارشي، الذي كان حتى وقت قريب يطالب برأس فيون، نفسها أمام خيار واحد لا بديل له، وهو دعم فيون لكي يواصل حملته الانتخابية باسم الحزب.
وإذا كان فيون خرج رابحاً من هذه المعركة داخل معسكره، فإن اليمين خرج منها منهكاً وفقد خلالها الكثير من بريقه. فقد نقلت وسائل الإعلام المختلفة فصول التناحر العنيف بين الشخصيات اليمينية، وتبين بوضوح أن حزب "الجمهوريون" يتكون من تيارات متقاتلة لا سبيل للجمع بينها، وأن مبدأ الوحدة خلف مرشح واحد ثبتته التمهيديات مجرد شعار لا مصداقية له. وستبدو الشخصيات اليمينية التي أبدت تحفظها على فيون باهتة ومن دون فعالية لا محالة، مثل فاليري بيكريس أو كريستيان ايستروزي وجان فرانسوا كوبي وغيرهم، وهي تدافع عنه في وسائل الإعلام في الأسابيع المقبلة. وفي هذا السياق تبدو الجملة التي نطق بها جوبيه، خلال إعلانه عزمه عدم الترشح، بالغة الدلالة "لقد كان اليمين يتجه نحو الفوز في شارع فسيح، وها هو الآن يجد نفسه أمام طريق مسدود". وهذا ما جعل أيضاً إيف تريار، وهو أحد كبار المعلقين السياسيين اليمينيين، يندد في صحيفة "لوفيغارو" المحافظة بما أسماه "خيار الانتحار السياسي لليمين" الذي بات يواجه الآن شبح هزيمة مدوية وإقصاء مبكر في الاقتراع الرئيسي، وهو الذي كان حتى عهد قريب المرشح الأول للفوز بها.