تتصارع الأجندات السياسية في العراق كلما اقترب موعد الانتخابات البرلمانية، مع تعويل جهات سياسية على الوصول إلى سدّة الحكم، بأي ثمن كان، مستغلّة الدعم الخارجي الذي تحظى به من قبل جهات خارجية تعمل على تحقيق مصالحها في العراق، ومع احتدام تنافس الأجندات الخارجية واستمرار الدعم الإيراني لجهات سياسية بعينها، تدخل الولايات المتحدة بقوة لدعم تشكيل تحالف انتخابي قد يكون مناوئاً لإيران. ومع اشتداد هذا الصراع في البلاد، يتضح أن آلاته هم السياسيون العراقيين أنفسهم، الذين انقسموا وألقوا بأنفسهم في أحضان الجهات الخارجية، لتبدو إرادة العراقيين مسلوبة، ورهينة للإرادات الخارجية، متجاوزة مصلحة البلاد. وذلك في وقت يرى فيه مراقبون أنّ الطرح الأميركي، وإن كان صعب التحقيق، فإنّه قد يصب في مصلحة العراق الذي عانى الكثير من التحكّم الإيراني في البلاد وسيطرتها على قراره السياسي، بينما يخشى آخرون من التركة الثقيلة التي خلّفتها حكومة المالكي السابقة والتي بنت فكراً طائفياً يصعب التخلّص منه، على الأقل في الفترة القليلة المقبلة.
في هذا السياق، يشير مصدر سياسي مطّلع، لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "العراق يتجه اليوم نحو سياسة المحاور، وأنّ إيران ما زالت تتمتّع بقوة ونفوذ في البلاد"، موضحاً أنّ "إيران تعد العدّة لنجاح أتباعها في الانتخابات المقبلة، لأجل إحكام سيطرتها على العراق، وأنّها تتحرّك بجدية من أجل تحقيق هذا الهدف".
ويضيف أنّه "مقابل ذلك لم تستطع طهران السيطرة على مكونات التحالف الوطني بشكل كامل، إذ إنّ زعيم التيّار الصدري مقتدى الصدر، انشق عن هذا التحالف ويقود تحركات لتشكيل كتلة عابرة للطائفية، تضم كتلاً كردية وسنيّة وأخرى مسيحية وغيرها من كتل التحالف الوطني". ويلفت إلى أنّ "تلك التحركات لاقت استحساناً من قبل رئيس الحكومة حيدر العبادي الذي لم يرد أن يدعمها بشكل معلن، لكنّه يسعى لتحقيق مكاسب من خلالها، خصوصاً أنّ واشنطن ترعى هذا التحرّك من بعيد وتوفر له الأجواء المناسبة، وتريد منه أن يكون حلفاً قوياً مناوئاً لإيران".
من جهته، يؤيد الجانب الكردي هذه التحرّكات، لكنّه لم يبد تفاؤلاً بإمكانية نجاحها، بسبب وجود معوقات كثيرة تعترض طريقها. ويقول القيادي في التحالف الكردستاني، محمود عثمان، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الخطوات العملية لتشكيل كتلة وطنية عراقية تضم مكونات عراقية مختلفة غير معلومة النتائج حتى الآن، ولا يمكن التكهّن بنجاحها أو فشلها"، مبيّناً أنّه "للأسف منذ عام 2003 وحتى قبلها ومنذ مؤتمر فيينا عام 1992 قسّم العراق إلى سني وشيعي وكردي، وتمّ التركيز على هذا المفهوم والتقسيم الطائفي والعرقي".
ويرى أنّ "هذه تعدّ موانع كبيرة تعترض طريق تشكيل كتل وطنية عراقية"، معتبراً أنّ "الوقت ما زال مبكراً على تحديد نتائجها". ويشدّد عثمان على أن "هذه التحركات شيء جيد ويصب في صالح العراق، وإذا استطاعت الجهات تشكيل قائمة وطنية حقيقية متجاوزة البعد الطائفي سيكون شيئاً مهماً جداً لمصلحة البلاد". وتستبعد جهات سياسية، إمكانية تشكيل تحالف وطني في العراق، مؤكدة أنّ "تركة حكومة المالكي الثقيلة تسببت بتجذّر الانتماء الطائفي في البلاد، والذي يعد المعوق الأكبر بوجه التوجهات الوطنية".
ويشير النائب عن التحالف محمد الكربولي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أنّه "لا يمكن تشكيل قائمة انتخابية مشتركة بكل المشتركات في العراق، بين المكونات السنية والشيعية والكردية"، مبيّناً أنّه "لا يزال أغلب المواطنين يغلّبون الانتماءات الطائفية أكثر من أي انتماء آخر، بسبب التركة الثقيلة لحكومة المالكي".
ويؤكد الكربولي أنّنا "ككتل سنيّة قريبون من الحوارات السياسية والانتخابية التي تجري بين الكتل، ولدينا تقارب في التوجه العام والرؤى المستقبلية مع العديد من الكتل السياسية"، لافتاً إلى أنه "إذا لم يكن هناك برنامج سياسي يضمن حقوق الجميع كمواطنين سنة وشيعة وأكراد وغيرهم من المكونات العراقية، لا يمكن لنا أن نقول بإمكانية تشكيل قائمة وطنية أو عابرة للطائفية". وتحظى التحرّكات السياسية، لتشكيل كتلة عراقية وطنية مناوئة لإيران بترحيب من كثير من الكتل العراقية الوطنية، والتي تدعو إلى تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والطائفية الضيقة.
في هذا الإطار، تعبّر الكتلة المسيحية في العراق، عن "رغبتها بتجاوز مرحلة الطائفية والعنصرية، وتجاوز هذه المرحلة بتشكيل كتلة عراقية وطنية تتجاوز حدود الطائفة والدين". ويعرب النائب عن الكتلة، لويس كارو، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، عن أمنيته في "أن تكون هناك كتلة كبيرة عابرة للطائفية وللانتماءات، كتلة عراقية وطنية، تخدم العملية السياسية برمّتها"، مؤكداً "دعم المكوّن المسيحي لتوجه كهذا، ورغبته بالانضمام إليه في حال أصبح حقيقة".
ويضيف: "نحن نسمع بهذه الطروحات من الكثير من الجهات السياسية العراقية، لكن بالنتيجة لم نجد، حتى الآن، أي تشكيل من هذا النوع، وما زالت مجرد حديث ولم يعرض علينا رسمياً طرح كهذا"، معرباً عن أمله بأن "لا تكون هذه الطروحات مجرّد حديث للاستهلاك الإعلامي ومجرّد دعاية مبكرة لبعض الكتل السياسية". ويشدّد على أنه "نحن كمكوّن مسيحي، دائماً مع التوجه العراقي، ولسنا طرفاً في إعادة النعرات الطائفية والسياسية للبلاد، ودائماً نقف على الحياد من أي صراع، ونحن ندعم ونؤيد أي توجه وطني بعيداً عن الطائفية والعنصرية".
ويقلّل كارو من "إمكانية تجسيد الكتلة الوطنية بشكل حقيقي في العراق، لأنّ الكثير من الجهات السياسية لديها أفكار لا تصبّ في مصلحة هذا التوجه، وأعتقد أن التخلص من هذه الأفكار خلال الفترة المقبلة صعب للغاية، وحتى في الانتخابات العتيدة"، مجدداً "الحاجة لأن تتهيأ الأذهان والنفوس بشكل أكثر واقعية تمهيداً لهذه الطروحات". ويكشف عن "وجود التعصّب الانتمائي وعلو الذات لدى معظم القادة الكبار في العراق، الذين لم يستطيعوا التخلّص من ذلك. الأمر الذي لا يدعو إلى التفاؤل بإمكانية تشكيل كتلة وطنية حقيقية".
وفي خضم هذا الصراع الخارجي في العراق، يرى الخبير السياسي عبد الرزاق السامرائي، أنّ "الانتخابات المقبلة ستكون أصعب انتخابات تمرّ بها البلاد، إذ إنّ صراع الوجود محتدم بين واشنطن وطهران، وكل منهما يسعى لتحقيق أهدافه".
ويوضح السامرائي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّه "حتى اليوم تبدو الرغبة الشعبية متوجهة نحو تشكيل تحالف وطني عابر للطائفية، لكنّ الرغبة وحدها ليست كافية، بل تتطلب مرتكزات حقيقية تذلل الصعوبات التي تعترضها"، مبيّناً أنّ "هذا التوجه يتطلّب زرع الثقة من قبل العبادي لدى الأطراف السياسية والتي يحاول كسبها، وتحديدا الكتل السنية والكردية".
ويشير إلى أنّ "العبادي في حال استطاع كسب شركائه السياسيين، وتطمينهم وتقديم وعود لهم بتأسيس دولة مدنية بعيدة عن الطائفية والعنصرية، وإبعاد الجهات الخارجة عن القانون، والمليشيات المنفلتة وتطويقها بالقانون، فإنّه سينجح في هذا التوجه". ويؤكد أنّ "فرص نجاح هذا التحالف تتوقف على تحرّكات العبادي، والتي تُعدّ جيدة لكنها تحتاج إلى جرأة أكثر في مواجهة تحالفه الوطني وكتله التي تسعى لتخريب العلاقة من الشركاء السياسيين".