تتميّز، ليس بفداحة خسائرها التي بقيت محدودة قياساً بالمعايير الأميركية- قتيل وخمسة جرحى- وليس لأنّها ترتدي الطابع السياسي على ما بدا، حيث تبيّن من مراسلات الجاني على وسائل التواصل الاجتماعي أنّه معاد للرئيس دونالد ترامب، كما للجمهوريين، بل لأنّ لحظتها تضعها في خانة الإنذارات الأولية المتزايدة، لتوسّع حالة الاشتباك الراهن بين فريق ترامب وخصومه، واحتمال انتقالها من المسرح السياسي إلى الشارع.
فالتحقيقات الجارية في قضية التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية، قد تقود إلى أزمة دستورية أو رئاسية، يخشى البعض من أن تدفع بأميركا نحو سيناريو "حرب أهلية قد نكون في الطريق إليها"، بتعبير باتريك بيوكانن، المحافظ المؤيد للرئيس ترامب، والذي سبق وعمل مع الرئيسين ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان، كما ترشّح هو نفسه للرئاسة في مطلع التسعينيات. ويتردّد كلامه، في صفوف أوساط من ذات الخندق.
العنف في أميركا بضاعة معتّقة. رافق عملية تأسيسها وكان جزءاً منها. المنظّم منه والعشوائي، كما السياسي الذي لم يسلم منه الرؤساء، حيث سقط منهم ثلاثة بناره. يحصد أكثر من ثلاثين ألفاً سنوياً. صار حالة يتعايش معها الأميركيون، ولو على مضض. يلعب توفّر السلاح الفردي وبغزارة (أكثر من 300 مليون قطعة سلاح بحوزة الأميركيين)، دوره في هذه المجزرة السنوية. ومع ذلك يزداد الإصرار على اقتنائه وحمله.
الخطر هذه المرة، أنّ السلاح بدأ يشقّ طريقه، ولو بصورة ضيقة ومحدودة، إلى ساحة الخلاف السياسي، وسط أجواء من الاحتقان المتزايد بوتيرة متسارعة. وفي هذا المناخ يصبح المحدود، مرشّحاً للتوسّع، مع تصاعد الضغط والانكشافات ضدّ الرئيس.
ويزيد من الخطورة، أنّ كلا الفريقين متمترس في خندقه، وعازم على خوض المواجهة السياسية حتى آخر الشوط، وبكافة الأوراق المتاحة له.
جبهة ترامب، تزعم أنّ الاشتباه بتورّط مقرّبين من الرئيس في التدخّل الروسي، رواية مفبركة ولا أساس لها من الصحة. يصرّ أصحاب هذه النظرية، على أنّ كل الشبهات التي ارتسمت حتى الآن، خاوية. الرئيس رأى أنّ شهادة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" السابق، جيمس كومي، الأسبوع الماضي، أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، "تبرئه" من الاشتباه بوجود علاقة لحملة ترامب مع الروس.
وزير العدل، جيف سيشنز، أصرّ بإفادته، أول أمس الثلاثاء، أمام ذات اللجنة، على نفي أيّ شبهة من هذا النوع، مع أنه أثار من الأسئلة أكثر مما أجاب.
أما جبهة خصوم الرئيس، فتتمسّك بالنقيض، وبما يدعم شكوكها. رأت في الشهادات والإقالات والتضارب في الروايات، ما يبرر تشبثها بوجوب المضي في التحقيقات حتى النهاية التي تعتقد بأنّها ستخلص إلى فضيحة.
وأخذ موقف هذه الجبهة شحنة من الزخم، عندما سرى، في اليومين الأخيرين، همس منسوبة مصادره إلى البيت الأبيض، بأنّ الرئيس "يفكّر" في إقالة المحقّق الخاص في القضية، روبرت مولر. إشاعة صبّت الزيت على نار الارتياب. عادت بالذاكرة إلى فضيحة "ووترغيت"، عندما أمر الرئيس نيكسون وزير العدل ونائبه بإقالة المحقّق الخاص الذي كان بدأ يتلمس طريقه لكشف دور الرئيس في القضية.
رفض الوزير ونائبه آنذاك تنفيذ الطلب، قاد ذلك إلى فرض الاستقالة على نيكسون، ليتفادى قرار الكونغرس بعزله. حصلت ضجة وتحرّكت المخاوف من تكرار السيناريو. قيادات من الجمهوريين سارعت إلى تحذير ترامب من الإقدام على مثل هذه الخطوة. لكن لا الرئيس تعهّد، ولا وزير العدل في إفادته، بعدم اللجوء إلى الإقالة. فقد يقدم عليها البيت الأبيض في آخر المطاف.
بذلك تبدو الهوة غير قابلة للردم بين الجبهتين. فريق ترامب يقول إنّ "هناك مؤامرة" نخبوية للإطاحة بالرئيس، من خلال الملف الروسي. والفريق المقابل يرى أنّ الحديث عن المؤامرة يهدف إلى إسكات الحملة، وبالتالي إقفال التحقيقات. الواضح أنّ الأول يخشى من الاستمرار في كشف الوقائع. والثاني، في الكونغرس ووسائل الإعلام، يدفع في الاتجاه المعاكس. ثمة حالة من الانسداد غير مستبعدة.
يُشار إلى أنّه في الآونة الأخيرة، وقعت احتكاكات وصدامات عنيفة، شهدتها بعض المناطق بين أنصار ترامب وخصومه. وتبيّن، حسب تقارير الشرطة، أنّه عُثر على أسلحة مع طرفي الاشتباكات. وتتزايد هذه الظاهرة مع ارتفاع منسوب التصعيد في خطاب الجانبين.
على هذه الخلفية، جاءت حادثة ملعب البيسبول. لم يفتح الجاني النار، إلا بعد أن تأكّد أنّ المستهدفين، نواب جمهوريون. عملية تسديد حساب، بصورة عشوائية، تدل على مدى الاحتقان والرفض، والنقطة التي يمكن أن يبلغها.
صحيح أنّها عملية فردية على ما بدا حتى الآن، وصحيح أيضاً أنّ الحديث عن "حرب أهلية"، ربما يكون مبالغاً فيه، من باب التخويف لقمع الأصوات والتحرّكات المضادة للرئيس ترامب؛ فالمؤسسات الأميركية ضمانة عالية ورادعة، لكن الصحيح أيضاً أنّ أميركا اليوم، مشطورة على غير ما سبق، والصراع فيها كسر عظم، ويستند على قواعد شعبية موتورة، لا مكان لمنطق التسوية لديها. ومن هنا، كان الانشغال الكاسح بالحادثة، وعلى كافة المستويات في واشنطن.