وبعدما قررت السلطات المحلية في مدينة الحسيمة عدم الترخيص لمسيرة اليوم، سارت أحزاب الأغلبية الحكومية الستة على المنوال نفسه، فدعت إلى التهدئة والتروي، وعدم تنظيم المسيرة. وطالبت أحزاب الأغلبية الحكومية المواطنات والمواطنين في إقليم الحسيمة، في بيان صدر أمس الأربعاء، إلى "التفاعل الإيجابي مع القرار القاضي بعدم السماح بالتظاهر يوم 20 يوليو حفاظاً على أجواء الهدوء وعلى مستلزمات النظام العام". ودعت الأحزاب الحكومية إلى "ضرورة السعي الصادق من أجل الإسهام في توفير أجواء التهدئة الكفيلة ببلورة الأوراش الإصلاحية والتنموية المختلفة، وتسريع وتيرة إنجازها، والاستجابة للمطالب المشروعة للمواطنات والمواطنين".
واقع متأزم
بخصوص واقع مدينة الحسيمة كنموذج لمنطقة الريف القصية بالمملكة، فإنها مدينة يكاد يجمع من يعرفها عن كثب على أنها منطقة مهمشة تنموياً، لم تستفد من فرص النهضة والتطور الاقتصادي الذي عرفته مناطق وجهات أخرى في البلاد.
ويقول عارفون بتاريخ المغرب حتى قبل نيل الاستقلال من الاستعمارين الفرنسي والإسباني في عام 1955، فإن الريف كان يشكل دوماً مثار "عدم رضا" من طرف السلطة المركزية في البلاد، منذ أن قاد الزعيم الراحل عبد الكريم الخطابي مقاومة الريف ضد المحتل، وتوجه نحو إقامة إمارة بالريف، وفق بعض الروايات التاريخية.
ولم تشهد منطقة أخرى في المغرب طيلة سنوات استقلال البلاد، انتفاضات واحتجاجات شعبية ووجهت بصرامة أمنية، أكثر من منطقة الريف تحديداً، لا سيما في سنوات 1958 و1984 و2014، ثم حالياً بمناسبة الاحتجاجات التي تسببت فيها في البداية وفاة بائع السمك محسن فكري بطريقة بشعة داخل شاحنة للقمامة.
هذه العلاقة المتوترة بين منطقة الريف، خصوصاً مدينة الحسيمة، وبين الدولة المركزية ظلت متواترة سنوات طويلة، بالرغم من مرور فترات "هدنة وانفراج" حاول خلالها العاهل المغربي الملك محمد السادس أن يرسيها مباشرة بعد اعتلائه سدة الحكم في البلاد في صيف 1999.
وعدا الواقع التاريخي الذي لا يؤدي دوراً لصالح منطقة الريف، فإن هناك واقعا اقتصاديا واجتماعيا صعبا انبثق من "الحزازات التاريخية" الماضية، يتمثل في تفشي البطالة بين شباب الحسيمة، وضآلة مشاريع التنمية، وغياب مرافق اجتماعية كبرى مثل الجامعات والمستشفيات.
وعلى الرغم من وجود منتجع سياحي بالحسيمة يستند إلى امتداد ساحلي كبير، فإن السياحة انحصرت في الصيف وبشكل موسمي، فلم ينعكس على مستوى معيشة السكان. كما أن نسبة البطالة لدى شباب المدينة تبلغ ضعف معدل البطالة بالبلاد، وذلك بتسجيل 21.1 بالمائة مقارنة مع نسبة 10.9 بالمائة وطنياً.
للسياسة نصيب
وفطنت الدولة إلى مشاكل الحسيمة محاولةً استدراك ما فات من نواقص اقتصادية بالمنطقة، فجاء إطلاق العاهل المغربي لمشروع "الحسيمة منارة المتوسط" سنة 2015 من مدينة تطوان، يتضمن مشاريع تنموية عدة تروم تحسين عيش السكان، وخلق الثروات المحلية، وإنشاء مستشفى تخصصي كبير، وإحداث نواة جامعة شاملة.
تأخر تنفيذ المشاريع الملكية على أرض الميدان، كان أحد الأسباب الحاسمة التي أفضت إلى "غضب عارم"، إذ لم تكن وفاة بائع السمك محسن فكري في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي سوى نقطة أفاضت كأس ذلك الغضب، لينفجر على شكل احتجاجات شبه يومية، عرفت في الآونة الأخيرة بعض التراجع بسبب توقيف العديد من أبرز نشطاء الاحتجاجات.
ليست الظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية وحدها التي تضافرت لتحوّل الحسيمة إلى قنبلة موقوتة، بل أيضاً هناك ظروف سياسية تراكمت وساهمت في هذا الواقع، متمثلة في "عجز" النخب السياسية المحلية عن التواصل مع السكان، واكتفاء الكثير منهم بالوصول إلى البرلمان أو الظفر بمقاعد في مناصب المسؤولية المحلية. ولأن معرفة طبيعة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي حفرت للحسيمة مكاناً في تضاريس المناطق المهمشة و"المتمردة"، جزء رئيسي من الحل الشامل، فإن هناك مقاربات لا بد أن تنهجها الأطراف المعنية، دولة وسكاناً ومجتمعاً مدنياً وحقوقيين، من أجل حل الأزمة المستفحلة في المنطقة.
مقاربات حلول
المقاربة الأولى مستعجلة قد تنفس من الضغوط الجاثمة على سكان ومنطقة الريف، والحسيمة على وجه خاص، تتجسد في إجراء آني هو إطلاق سراح العديد من المعتقلين، كمؤشر إلى حسن النية في حلحلة الملف. ولكن هذا الإجراء، الذي تتوفر لرئيس الدولة وحده صلاحيته، باللجوء إلى "العفو الملكي"، قد لا ينفع كثيراً في تهدئة الخواطر، لكنه قد يدفع صوب تراجع المتظاهرين عن الخروج إلى الشوارع بشكل مواظب.
أما المقاربة الثانية فلها بُعد أمني محض، شرعت فيه السلطات المعنية منذ أيام قليلة بتخفيض حجم القوات الأمنية التي نشرت في مدينة الحسيمة ضمن ما يسميه المحتجون "عسكرة الريف"، وهو تدبير لازم لإيجاد أرضية صلبة للحوار بين الأطراف المعنية، وبالتالي يتعين على الساكن أن يلتقط هذا الخيط بإيجابية واستجابة.
المقاربة الثالثة لحل أزمة الحسيمة تكمن أساساً في التدابير الاقتصادية والاجتماعية، وهي لا يمكن أن تتحقق سوى بتحويل مشاريع الحسيمة منارة المتوسط إلى واقع يعيشه ويتنفسه سكان الحسيمة.
ويبدو أن هذا الحل الاقتصادي سائر في طريق تنفيذه على أرض الواقع، بالرغم من أنه يحتاج زمناً مُعتبراً، ونفوساً رحبة من قبل السكان، وهو ما يبدو أن هؤلاء لم يلمسوه بعد رغم وعود الحكومة بتنفيذ المشاريع المتأخرة في آجالها المقررة، حتى قبل سنة 2019.
الحل الاقتصادي كان قد أمر به العاهل المغربي، بعد أن أمر بتشكيل لجنة للتحقيق مكونة من مفتشية وزارتي الداخلية والمالية، فتحت تحقيقاً مع من يكون وراء تأخر تنفيذ تلك المشاريع، وهو التحقيق الذي سيضطلع الملك بمعرفة نتائجه، ومن ثم إعلان قرارات وربما إعفاءات وإقالات، أو حتى متابعات قضائية.
ويبقى الحل السياسي أيضاً لتجاوز أزمة الريف، وهو حل لا يستهان به في هذا المقام، إذ إن النخب السياسية المحلية سواء في البرلمان أو في التدبير اليومي لشؤون السكان، مدعوة إلى الإنصات إلى مشاكل السكان، وإيصال مطالبهم إلى الجهات المعنية، تفادياً لتراكم الاحتياجات والمطالب.