تخيّم حالة حرب بلا نيران في أجواء إقليم كردستان بعد إجرائه استفتاء الانفصال عن العراق، مع إعلان بغداد، بتنسيق مع أنقرة وطهران، إجراءات تصعيدية لمنع الإقليم من أي تحرك يستهدف ترجمة نتائج الاستفتاء على الأرض، والتأكيد بوضوح ألا تفاوض حول الاستفتاء ولا حل إلا بإلغائه، فيما برز رفض كردي للتجاوب مع قرارات السلطات العراقية، التي حددت يوم غد، الجمعة، مهلة أخيرة لتنفيذ طلباتها، مع التلويح بالخيار العسكري، ما يجعل الإقليم والعراق ومعهما المنطقة أمام ساعات حاسمة ومفتوحة على كل التطورات.
وجاءت القرارات تلك خلال جلسة للبرلمان العراقي عُقدت، أمس الأربعاء، بحضور العبادي ووزراء الدفاع والداخلية والنفط والأمن الوطني ورئيس أركان الجيش وقادة أمنيين آخرين، وأعلن خلالها العبادي عن جملة من القرارات الحكومية التي تم بعضها بتنسيق بين بغداد وأنقرة وطهران، من بينها إبلاغ الشركات الأجنبية العاملة في العراق بإغلاق المجال الجوي لإقليم كردستان اعتباراً من نهار الجمعة وحتى إشعار آخر، وإمهال الإقليم 3 أيام تنتهي عصر غد الجمعة لتسليم المعابر الحدودية مع تركيا وإيران لبغداد وبإدارة طاقم عراقي، أو سيتم إغلاقها من قبل الطرف الثاني (إيران وتركيا)، وتهيئة عملية تسليم الحقول النفطية وآبار الغاز في كركوك والمناطق المتنازع عليها لبغداد بأسرع وقت ممكن. كما تضمّنت القرارات تقديم كشف عن صادرات الإقليم من النفط والغاز طيلة السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق، وتشكيل لجنة وزارية لتعقب حسابات مسؤولي كردستان المالية في المصارف وتجميدها لشبهات الفساد، فضلاً عن إلزام البنك المركزي بوقف تزويد بنوك ومصارف كردستان بالعملة الصعبة اعتباراً من صباح اليوم، الخميس. وأكد العبادي في كلمة له أمام البرلمان، أن حكومته لن تتفاوض مطلقاً على نتائج استفتاء انفصال الإقليم، معلناً أنه "لا بد من إلغاء الاستفتاء كشرط للدخول في حوار مع الإقليم تحت سقف الدستور".
وفي ترجمة لإجراءات بغداد، أرسلت هيئة الطيران المدني العراقية إخطاراً لشركات الطيران الأجنبية، أبلغتها فيه أن الرحلات الجوية الدولية إلى مدينتي أربيل والسليمانية في إقليم كردستان ستتوقف اعتباراً من الساعة الثالثة بعد ظهر الجمعة بتوقيت غرينتش، على أن يسمح بالرحلات الداخلية فقط. وبدأت شركات طيران بإعلان وقف رحلاتها إلى أربيل منذ يوم الجمعة، منها شركة مصر للطيران وشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية والخطوط الجوية التركية.
وكشف مستشار لرئيس الوزراء العراقي لـ"العربي الجديد"، أن "القرارات التي صدرت باتت في طور التنفيذ وأولها المنافذ البرية والمطارات، فإما تسليمها أو إغلاق جميع المنافذ إلى كردستان براً وجواً مع عصر غد الجمعة". وأضاف أن "القرارات بعضها يتعلق بتركيا وإيران وتم الاتفاق عليها، إذ إن البلدين أعلنا أنهما ينتظران إخطاراً من بغداد لإغلاق المنافذ من جانبهما وإيقاف شحنات النفط المصدّرة من الإقليم إلى الخارج عبر الدولتين". ويمتلك العراق معبري إبراهيم الخليل (يسمى الخابور من الطرف الكردي)، وسريزي مع تركيا، فضلاً عن أربعة معابر مع إيران، أبرزها حاج عمران، وكلها حالياً تحت سيطرة قوات الأسايش والبشمركة الكردية منذ الاحتلال الأميركي للعراق. ووفقاً للمسؤول ذاته، فإن "مسألة نشر القوات العراقية في كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها ستتم عبر مراحل وترتبط بالوضع الميداني والحرب على داعش، لكن نأمل ألا تعيق أربيل ذلك".
وحول الموقف الأميركي، كشف عن "انقسام حاد داخل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بين مؤيد لأربيل وآخرين لبغداد"، موضحاً أن "هناك طرفاً مُمثلاً بصهر الرئيس مستشاره جاريد كوشنر يقف مع أربيل، بل يتبنى الكثير من مواقف البارزاني، بينما الطرف الآخر ممثلاً بفريق الجمهوريين المحيطين بترامب يؤيدون بغداد ويصرون على دعم العبادي، وعلى رأسهم مبعوث ترامب لشؤون التحالف الدولي بريت ماكغورك"، مقللاً من أهمية هذا الانقسام باعتبار أن كل القرارات التي اتُخذت سيادية ودستورية ضد أربيل.
وفي تأكيد على أن بغداد تتجه للتصعيد في حال رفض أربيل إجراءاتها، قال رئيس لجنة الأمن والدفاع العراقية، حاكم الزاملي، لـ"العربي الجديد"، إن "رفض أربيل قرارات البرلمان والحكومة سيجعل من الخيار العسكري الذي لا نرغبه أمراً لا بد منه". وأضاف الزاملي: "لدينا إمكانيات عسكرية وقدرة قوية على بسط سلطة الدولة الاتحادية في أي مكان من العراق ولا يمكن للبشمركة أو غيرها الصمود أمام بغداد". وأعلن "أننا نعمل جادين لحل الموضوع وتطبيق القانون، وتركيا وإيران أبدتا مساندتهما للعراق وقطع المنافذ الحدودية للإقليم ومنع تهريب النفط من خلال علاقاتنا الدولية أيضاً من الإقليم إلى خارجه".
وحول الموقف الأميركي، قال الزاملي: "موقف منافق، فأميركا تقول شيئاً وتعطي شيئاً بالسر للبارزاني، وهذا ما تأكد لنا، ونحن نعلم جيداً أن البارزاني لا يُقدم على أي خطوة من دون موافقة واشنطن، لذا نحن نرى أنه أخذ الضوء الأخضر منها"، مضيفاً: "طالما إسرائيل داعمة ومباركة لانفصال كردستان فهذا يعني أن أميركا موافقة". كذلك اعتبر الزاملي أن "موقف بعض الدول العربية وخصوصاً الخليجية مؤسف للغاية، إذ صدرت تصريحات من شخصيات إماراتية وسعودية تبارك وتدعم انفصال جزء من العراق، وأنا أعتقد أنهم يعرفون جيداً ما يفعلون"، محذراً من أنه "إذا تقسم العراق كما يرغب البعض وكما هي مخططات الصهيونية، فإن الكثير من الدول ستقسم ومنها السعودية والإمارات". وفي السياق نفسه، أعلن حزب "الحركة القومية" التركي، أن "أكثر من 5 آلاف من منتسبي الحزب مستعدون للانضمام إلى كفاح التركمان في كركوك والمناطق العراقية الأخرى، فالتركمان ليسوا لوحدهم ولن نتركهم يتعرضون لمجازر عرقية"، كما نقلت وكالة "الأناضول".
لكن مقابل ذلك، وفي ما بدا تحدياً لسلطات بغداد، أعلنت إدارة إقليم شمال العراق، أمس، رفضها تسليم مطاري أربيل والسليمانية الدوليين إلى حكومة بغداد. وقال وزير النقل والمواصلات في الإقليم، مولود باوه مراد، في مؤتمر صحافي، إن "المطارين لم يرتكبا أية مخالفات للقوانين والقرارات الصادرة عن سلطة الطيران المدني الاتحادي". وأضاف: "كل الرحلات الداخلية والدولية من وإلى الإقليم خاضعة لسلطة وتعليمات الطيران المدني الاتحادي (بالعراق)".
في المقابل، حاول رئيس حكومة إقليم كردستان، نيجرفان البارزاني، تخفيف حدة التوتر، معلناً الاستعداد للحوار مع بغداد "شرط ألا يكون لها موقف أحادي"، معتبراً في مقابلة تلفزيونية، أمس، أنّ "العقلية التي يدار بها العراق هي التي دفعتنا لإجراء الاستفتاء". ونفى "وجود أي علاقات رسمية للإقليم مع إسرائيل، وفي الوقت ذاته لا نعادي أي طرف ولدى العديد من الدول علاقات معها".
مقابل ذلك، تشير التحضيرات على الأرض إلى أن بغداد وأنقرة تتحضران لكل الخيارات، إذ تستمر المناورات العسكرية التركية التي تقيمها أنقرة على بعد نحو ثلاثة كيلومترات من معبر خابور/ إبراهيم الخليل مع أراضي إقليم كردستان، وذلك بمشاركة قوات عراقية، وسط أحاديث عن إمكانية القيام بعملية عسكرية للسيطرة على معابر كردستان مع تركيا. وأكد مصدر تركي مطلع لـ"العربي الجديد"، أن العملية العسكرية للسيطرة على المعابر الحدودية بين الإقليم وتركيا وتسليمها للحكومة المركزية العراقية قد تبدأ في أي لحظة، قائلاً إن "هدف المناورات القائمة بمشاركة القوات التابعة للحكومة العراقية تحقيق وحماية الاستقرار في المنطقة، ولن يتم إغلاق معبر الخابور الحدودي، ولكن ستستمر المناورات العسكرية المشتركة قرب المعبر، ولا يوجد سقف زمني للمناورات، ومن الممكن أن تتحول هذه المناورات إلى عملية عسكرية في أي لحظة بالتعاون مع القوات العراقية". وشدد المصدر على أن طبيعة المرحلة المقبلة وإمكانية التدخّل العسكري للسيطرة على المعابر الحدودية تعتمد على ردود البارزاني، مضيفاً: "في ما يخص نوعية العقوبات، فإن هذا الأمر سيتم تحديده عبر اللجنة العراقية الإيرانية التركية المشتركة التي ستنسق الأمور".
يأتي ذلك فيما وقّع 210 نواب إيرانيين على عريضة ترفض استفتاء انفصال إقليم كردستان ونتائجه، خلال جلسة عُقدت أمس الأربعاء. وقبيل إقرار العريضة، عقد أمين مجلس الأمن القومي الإيراني الأعلى علي شمخاني، في البرلمان، جلسة مغلقة مع النواب، بحثوا خلالها التطورات المرتبطة باستفتاء كردستان. ونقلت وكالة "مهر" عن النائب جبار كوتشكي نجاد، قوله إن شمخاني ذكر للنواب أن العراق وتركيا وإيران شكّلوا جبهة واحدة للتباحث بشأن الاستفتاء قبل إجرائه، وفتحوا خط حوار دبلوماسياً ووجّهوا ملاحظاتهم للمسؤولين في الإقليم من دون نتيجة. وشرح شمخاني للنواب الخطة التي وضعتها إيران مبدئياً لاتخاذ إجراءاتها في المرحلة المقبلة، مذكراً بأن لدى البلاد العديد من الخيارات ولكن على الحكومة العراقية أن تقوم بترتيبات وإجراءات قانونية بتواصلها مع الأمم المتحدة وتقديم طلباتها رسمياً لإيران وتركيا، لاتخاذ الخطوات من طرفهما. كما أكد أن الحوار التركي الإيراني العراقي سيستمر في المستقبل، كما ستستمر هذه الأطراف باتصالاتها مع المعنيين في كردستان، قائلا إن الحكومة العراقية تستطيع اتخاذ أي إجراءات بما فيها الخيار العسكري لتجبر الأكراد على التراجع عن موقفهم بما يحفظ وحدة العراق.
دولياً، حذر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، من نشوب أزمات جديدة في الشرق الأوسط في حال إعلان إقليم شمال العراق انفصاله. وقال لودريان، في تصريح تلفزيوني، إن "الأمر المستحب اليوم هو دمج الأكراد العراقيين في إعادة بناء العراق والمصالحة في العراق من خلال الحصول على أكبر قدر ممكن من الحكم الذاتي".