فَرْق في الحياة السياسية
يبدو واضحاً أنّ "الكاريزما" أدت دوراً أساسياً في حضور واختيار هذه الشخصيات، إذ إنه ورغم صغر سنّهم، فهم من القيادات المشاكسة، ولديهم طريقتهم بدمج الأفكار في السياسة بأسلوب ولغة جديدين، لهدف أساسي ومشترك، هو إحداثُ فَرْقٍ في الحياة السياسية بعيداً عن الشعبوية. مع العلم أنّ الشعبويين في أوروبا لطالما استغلوا فرصة غياب قيادات سياسية عريقة داخل الأحزاب تتميّز بمصداقيتها ودينامكيتها في إيجاد الحلول المناسبة لشعوبهم في زمن العولمة.
ففي فرنسا مثلاً، استطاع الرئيس الشاب المنتخب عام 2017، إيمانويل ماكرون، شقّ صفوف الحزبين التقليديين، الجمهوري والاشتراكي، بعدما أسّس حركة "إلى الأمام" عام 2016. وهو يخطّط حالياً لمشاريع خصخصة ضمن برنامج لبيع الأصول وتخلّي الدولة عن بعض الشركات وبيع أسهمها من أجل تمويل صندوق "للابتكار" بعشرات المليارات من اليوروات. هذا إضافة إلى عمله، وبالتعاون مع الشريك الأقوى، ألمانيا، لتحقيق إصلاحاتٍ في أوروبا بعدما قدّم أخيراً عدداً من المقترحات لتصبح أوروبا "أكثر جاذبية وشفافية"، وعبّر عن تطلعاته بهذا الخصوص في مؤتمرات للاتحاد الأوروبي، كما وتحيّنه الفرصة لاتخاذ قرارات شجاعة تتعلّق بإصلاحات جديدة ذات سيادة موحدة وديمقراطية لأوروبا، عدا عن طموحه بجيش أوروبي مشترك واتباع سياسة مالية صارمة، كما وتعيين وزير مالية مشترك في منطقة اليورو، وتلقّى وعوداً بذلك من قبل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والحصول على أجوبة لمقترحاته خلال ربيع 2018.
من جهته، ارتأى المستشار النمساوي الجديد زعيم حزب "الشعب"، سيباستيان كورس، الذي حقّق أخيراً انتصاراً في الانتخابات البرلمانية، وفي سابقة على مستوى القارة العجوز، تشكيل حكومة مع حزب الحرية اليميني الشعبوي المشكّك بأوروبا، في أقلّ من ثلاثة أشهر، رغم أنّ فيينا باتت الآن تتعايش مع اليسار في الرئاسة واليمين في الحكومة. أما رئيس الوزراء اليوناني، ألكسيس تسيبراس، فيحاول العودة بأثينا إلى قدرتها للمنافسة أوروبياً، بعدما كان قد انتقد في وقت سابق من العام الماضي تردّد المستثمرين الأوروبيين بالتوجه نحو بلاده. علماً أنّ البرنامج المقرّر للمساعدات الأوروبية لليونان ينتهي في أغسطس/ آب 2018، وتبيّن أنه تمّ التخفيف من عبء الديون للدائنين بعدما دفعت بلاده ثمناً باهظاً لإدارة الأزمة. وعاد الاستثمار الأجنبي في البلاد ونما في النصف الأول من العام 2017 بنسبة 170 في المائة، ومن المتوقّع أن ينمو اقتصاد أثينا بنسبة 2 في المائة في العام 2018.
كسر النمط القديم في القيادة
يعتبر خبراءُ في العلاقات الأوروبية أن نجاح هؤلاء الشباب أظهر الأزمة التي تعيشها الأحزاب الشعبية، وأن هناك إرادة لدى المواطن المدرك للأمور للتغيير الحقيقي. وجاء هذا بعد فقدان الثقة في الطبقة السياسية الحاكمة. ولا شكّ أنّ الناخبين أعطوا هؤلاء السياسيين الشباب قفزة هائلة، سمحت لهم بقطع شوط كبير بعدما برهن الناخب أنه بات يفضل الحركات على الأحزاب.
من جهة ثانية، يرى الباحثون أنّ السيرة الذاتية لهذا الجيل الجديد من السياسيين تبيّن أنّ العلم والكفاءة نمَوَا مع تلك الأجيال. وهنا تطرح أيضاً أسماء برزت في عالم الاقتصاد والتجارة والابتكار والبرمجة، ومنها مارك زوكربرغ، مؤسس موقع فيسبوك، الذي أعاد توجيه العالم، فضلاً عن المبتكرين والمطورين في "مايكروسوفت" و"أبل" و"أمازون" وغيرها. وهذا دليل على أنّ العالم بات يحتاج إلى أنواع جديدة من الرجال.
ويعوّل الجميع على هؤلاء القادة في قدرتهم على تجديد أوروبا، من دون أن يعني ذلك الخروج على المبادئ التقليدية والحفاظ على المؤسسات بكثير من الواقعية السياسية. ويتعمّد هؤلاء إظهار عدم الثقة في الطبقة الحاكمة واختلافهم معها، وهو ما كان واضحاً في حراك المستشار النمساوي كورس، إذ أكّد أنّ الإسلام ينتمي إلى النمسا، مع عدم اعتراضه على معسكرات اعتقال اللاجئين في جزر البحر الأبيض المتوسط، ومطالبته بوضع نهاية للمحاولات الفاشلة لتطبيق نظام حصص اللاجئين على دول الاتحاد، وحثّه المسؤولين على بذل جهد لمساعدتهم في أوطانهم.
مشاركة المواطن في القرار
يعتبر مديرو مراكز أبحاثٍ ودراسات في العلوم السياسية في ألمانيا، أنّ المواطن الذي بات مطّلعاً على النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، بفعل التطوّر في عالم التكنولوجيا ودخول وسائل التوصل الاجتماعي كعنصر مؤثّر في حياة الأفراد، أصبح يريد أن يحكم مع السياسي، وهو الأسلوب الذي يعتمده القادة الجدد العارفون بحاجة المواطنين للتغيير والأمن والشعور بالاستقرار بعيداً عن التفرّد بالقرارات.
وأبرز القادة الشباب الذين ظهروا في السياسة الأوروبية السنواتِ الثلاث الأخيرة، زعيم الحزب الليبرالي الحر في ألمانيا كريستيان ليندنر (38 عاماً)، من يمين الوسط، والذي عاد بحزبه في دورة 2017 إلى البوندستاغ، والرئيس الفرنسي ماكرون (39 عاماً)، الذي يتكوّن جزء كبير من حركته "إلى الأمام" من الاشتراكيين القدامى، والمستشار النمساوي كورس (31 عاماً)، وتسيبراس (43 عاماً) الذي عاد في العام 2015 رئيساً لحكومة اليونان، إضافة إلى الخرق الذي شهدته العديد من الولايات الألمانية بوصول رؤساء حكومات من جيل الشباب، أمثال مايكل كريتشمر (42 عاماً)، في ولاية سكسونيا، ودانيال غونتر (44 عاماً)، في ولاية شليسفيغ هولشتاين، ومانويلا شفيسيغ (43 عاماً)، في ولاية مكلنبورغ فوربومرن.
وظهور هؤلاء يمكن وصفه كنوع من التحالف بين حياة مرنة مع الطبقة الوسطى من المواطنين وقادتهم، وهو ما يعبّر عنه مثلاً ماكرون دائماً، مؤكداً أنه يريد أن يطلق العنان للاقتصاد ويعزّز الشركات الشابة، كما يجاهر به رؤساء حكومات الولايات الشباب في ألمانيا، مطلقين برامجهم التي تتركّز على التعليم والتطوير والابتكار وتنمية المناطق الريفية وتزخيم العمل مع مؤسسات المجتمع المدني، بعد تسجيل تجارب ناجحة في الولايات مع الشرطة المدنية التطوعية ومشاركة للمواطنين في بناء سجون جديدة على سبيل المثال.
التكامل والموقف لتحقيق النجاح
تثبت التجارب الكثيرة أنّ عوامل النجاح لأي قيادي لا بدّ من أن تنطلق من برنامج محدّد وتنظيم مجتمعي. وتتركّز متطلبات عمل أي قيادي في أوروبا في هذه المرحلة على أمور عدة باتت اليوم تحظى باهتمام المجتمع، أهمّها التغيّر الديمغرافي والشيخوخة التي حلّت بالمجتمعات الأوروبية، حيث برزت الراديكالية وتركت آثارها على المجتمع. وهذا ما عكسته نتائج الانتخابات البرلمانية في معظم الدول الأوروبية، إذ أضعف تقلّبُ مزاج الناخب الأغلبيةَ التقليدية المعتادة، ونتيجة تزايد العنصرية والتعسّف في تلك الأوقات المضطربة حول العالم. وهذا الواقع جعل من الناخبين يطلبون من القياديين موقفاً حاسماً في هذه القضايا، الأمر الذي تجلّى في الفترة الأولى لتسلم مارتن شولتز زعامة الحزب الاشتراكي في ألمانيا بداية العام 2017، إذ بيّنت استطلاعات الرأي، وبعد فترة قصيرة من توليه قيادة الحزب، زيادة في نسبة المؤيدين للاشتراكي، ووجد فيه المناصرون الشخص المخلّص، بحيث اقترب من أرقام المستشارة أنجيلا ميركل. واعتقد البعض أنّ منصب المستشار من الممكن أن يؤول مجدداً إلى الاشتراكي، إلّا أنّ الأرقام عادت وهوت من جديد قبل أشهر من الانتخابات العامة التي جرت في سبتمبر/ أيلول الماضي، نتيجة مواقفه التي افتقدت وفي كثير من الأحيان للمصداقية، ما سمح للمستشارة بتحقيق فوز رابع، من المرجح أن يسمح لها بتولّي ولايتها الرابعة، رغم تعثرها المستمر، ومنذ أكثر من ثلاثة أشهر، في تشكيل ائتلاف حكومي جديد.
يخلص الباحثون في ألمانيا إلى أنّ لكل جيل تحدياته الخاصة، والواقع الآن يتطلّب الاعتماد على التكامل والابتكار لملاقاة المستقبل والتغلّب على القلق، وأن ينشئوا عالمهم الفردي والجماعي بكفاءاتهم الذاتية وحرياتهم المشتركة. وفيما تبقى الجرأة في المبادرة، يبدو أن الطريق في أوروبا طويل أمام هكذا نوعٍ من التجارب السياسية.