وصاغ المجلس الوطني التأسيسي (أول برلمان بعد الثورة)، دستوراً جديداً للبلاد، تمّت المصادقة عليه واعتماده رسمياً في 26 يناير/ كانون الثاني 2014، واحتفل به التونسيون في اليوم التالي في مشهد استثنائي، وكان أولى ثمرات الثورة والعقد الذي يربط بين الشعب والحكام والسلطات.
وتعدّ المصادقة على الدستور حدثاً فارقاً في تاريخ تونس "الثورة"، إذ حصد أعلى نسب تصويت عرفها البرلمان التونسي بإجماع 200 نائب من 217 عضواً. ونصّ هذا الدستور على التمسّك بتعاليم الإسلام المتسمة بالاعتدال والتسامح، وترسيخ نظام جمهوري برلماني عادل، في إطار دولة مدنية، السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي للحكم بشكل ديمقراطي تعددي وبواسطة الانتخابات الحرة والمباشرة، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات وتحقيق التوازن بينها.
ويُحسب للسلطات التونسية أنها تمكّنت منذ المصادقة على الدستور، من إرساء الهيئة الدستورية المسؤولة عن الانتخابات، ونجاحها في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة مكّنت من تداول السلطة بشكل سلمي وديمقراطي، في وقت تقبل البلاد على إجراء أول انتخابات محلية وبلدية في أيار/ مايو المقبل. وبالتالي تكون قد نجحت أيضاً في تكريس مبدأ اللامركزية الذي جاء في الباب السابع من الدستور.
وتمكّنت تونس من تشكيل "المجلس الأعلى للقضاء" الذي جاء به الدستور لتنظيم السلطة القضائية وضمان استقلاليتها، كما تمّت المصادقة على قانون المحكمة الدستورية في انتظار إرسائها.
كذلك، شُكّلت "هيئة الحقيقة والكرامة" المسؤولة عن تحقيق مسار العدالة الانتقالية. كما صادق البرلمان منذ انتخابه على عشرات القوانين والاتفاقيات التي نصّ عليها الدستور والتي تكرّس حقوقاً وبنوداً دستورية، كالحقّ في النفاذ إلى المعلومات، ومنع الاتجار بالبشر، والوقاية من التعذيب، وضمان المحاكمة العادلة، وحماية الحريات الفردية.
وفي هذا الإطار، قال المقرر العام للدستور، حبيب خضر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "التوصّل إلى تفعيل الأحكام الدستورية كاملة، عملية تتطلّب بطبيعتها وقتاً وسنوات عديدة، ولهذا كان ضرورياً تضمين الدستور في منتهاه باباً للأحكام الختامية والانتقالية، لتفادي أية لحظة فراغ لا ينطبق عليها أيّ نصّ"، موضحاً أنه "في وقت تسنّى إدخال جزء هام من أحكام دستور الثورة حيّز التنفيذ، إلّا أنّ جزءاً لا يقلّ أهمية لا يزال في الانتظار". ولفت إلى أنه "في وقت دخلت حيّز التنفيذ نظرياً كل الأحكام المتعلقة بالمبادئ العامة والحقوق والحريات والسلطتين التشريعية والتنفيذية وجزء من الأحكام المتعلقة بالسلطة القضائية وقليل من الأحكام الخاصة بالهيئات الدستورية المستقلة، فإن أحكاماً دستورية كثيرة لا تزال إمّا في انتظار التفعيل رغم دخولها حيّز التنفيذ، مثل ما يتعلّق بشعار الجمهورية التونسية الجديد والواجب الدستوري بالتصريح بالمكاسب، والأحكام المتعلقة بالقضاء الإداري والقضاء المالي وفق الرؤية المقررة بالدستور، وأحكام الهيئات الدستورية باستثناء هيئة الانتخابات، وإمّا في انتظار الدخول حيز التنفيذ، مثل الأحكام المتعلّقة بالمحكمة الدستورية التي ما يزال دخولها حيز التنفيذ مشروطاً باستكمال تعيين أعضاء أول تركيبة، والأحكام المتعلقة بالسلطة المحلية التي لا تزال في انتظار القوانين المنصوص عليها في الباب السابع من الدستور".
وتظهر هذه الحصيلة الإجمالية أنّ هناك عملاً مهماً لا يزال في انتظار إنجازه، من الحكومة كجهة أساسية للمبادرات التشريعية، ومن السلطة التشريعية كجهة اختصاص في سنّ القوانين، ليتسنّى استكمال إدخال كل أحكام الدستور حيّز التنفيذ وتفعيلها بكاملها.
وأوضح خضر أنه "لا ريب أنّ الدستور قد حظي بقبول واسع فاق جلّ التوقعات، وذلك لما تمّ فيه من اعتماد مسار يبحث عن التوافق ويسعى للعمل في المساحة المشتركة والجامعة لكل التونسيين، ولكن ذلك لا ينفي عنه صبغته كاجتهاد بشري يمكن أن يكون في حاجة إلى التعديل مع مرور الزمن وتغيّر الظروف. ولكن طبيعة النص الدستوري أنه ذو ثبات أكثر من النصوص التشريعية العادية، ولهذا لا يتم اللجوء في الدول الديمقراطية لتعديل الدستور، إلّا بعد فترات طويلة، في حين أنّ من تقاليد الديكتاتوريات كثرة تعديل الدستور بحسب الأهواء والأمزجة المتقلبة. وبلادنا من الصنف الأول الذي يسير في اتجاه استكمال الانتقال الديمقراطي". ولهذا السبب، قال خضر إنه "لا يرى أنه من السليم اليوم الحديث عن حاجة لتعديل الدستور قبل استكمال تفعيل أحكامه، خصوصاً ما يتعلّق بالسلطات الدستورية الخمس (التشريعية، التنفيذية، القضائية، الهيئات الدستورية المستقلة والسلطة المحلية)". واعتبر أنه "بعد ذلك التفعيل يمكن القيام بتقييم عام للنص الدستوري وفاعليته، بعد أن تحوّل من نص إلى واقع. وحينها يمكن الحديث عن حاجة للتحسين في موضع أو آخر".
ويُعاب على السلطات التونسية بعد مرور أربع سنوات على المصادقة على الدستور، عدم انتخاب المحكمة الدستورية بعد، وعدم إتمام بقية الهيئات الدستورية الأخرى، كهيئة حقوق الإنسان وهيئة حماية حقوق الأجيال المقبلة، وهيئة الاتصال السمعي البصري، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد، بالرغم من أنّ البرلمان شرع في إجراءات الانتخابات أو بصدد مناقشة قوانينها.
وتعالت دعوات سياسية إلى تعديل النظام السياسي والعودة إلى النظام الرئاسي، بسبب الصعوبات والعراقيل المسجّلة في تسيير الحكم في سلطة تنفيذية برأسين، يقود جزء منها رئيس البلاد، والجزء الآخر رئيس الحكومة. كما أظهرت الممارسة السياسية صعوبات واختلالاً في التوازن السياسي بين السلطة البرلمانية والتنفيذية، ما عطّل إنجاز المشاريع والتقدّم بالبلاد.
وفي هذا السياق، قال رئيس البرلمان التونسي محمد الناصر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يمكن تقييم نظام الحكم الجديد بارتجال، فالتجربة الديمقراطية لا تزال فتية، ولم يتم تفعيل جميع أحكام الدستور بعد"، مشيراً إلى أنّ "هذه الفترة الانتقالية القصيرة لا تمثّل شيئاً في عمر الشعوب وتاريخها، فلا يمكن الحديث عن تعديل الدستور ما لم تفعّل المؤسسات الدستورية والهيئات التي جاء بها". ولفت الناصر إلى أنّ "تونس في المسار الصحيح في اتجاه تعزيز البناء الديمقراطي وضمان مستقبل أفضل للتونسيين".