كشفت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي نقلتها الصحافة التركية، أمس الخميس، أن الاتفاق بين بلاده والولايات المتحدة بخصوص مدينة منبج، شرقي حلب، ما زال في مرحلة التعثر، وربما الفشل، في ضوء برودة العلاقات التركية - الأميركية، فضلاً عن دخول النظام السوري كلاعب رئيسي في قضية منبج بعد تمكن قواته بدعم روسي، من السيطرة على معظم مناطق المعارضة (باستثناء إدلب ومحيطها) وتوجيه بوصلته شرقاً لاستكمال هذه السيطرة. وفي نعيه غير الصريح لاتفاق منبج، قال أردوغان إن "الاتفاق تأجل، لكن لم يمت تماماً".
وأتت تصريحات أردوغان في وقت باتت فيه العلاقات الأميركية ــ التركية أسيرة البرود الشديد، نتيجة قضية اعتقال القس الأميركي أندور برونسون في تركيا، وما تبع ذلك من عقوبات أميركية هوت بالليرة التركية. ورغم الإعلان مطلع الشهر الحالي عن استئناف تسيير دوريات مشتركة في منبج بين الجانبين الأميركي والتركي، إلا أن هذه الدوريات، التي تكاد تكون البند الوحيد الذي تمّ التقيّد به في اتفاق "خارطة الطريق" الموقع بين الجانبين في يونيو/ حزيران الماضي، لم تعد ذات معنى في ظل ما يتخذه الجانبان الأميركي والكردي من إجراءات على الأرض باتجاه تكريس سيطرتهما على المدينة، وليس الانسحاب منها بموجب الاتفاق.
وتتضمن "خارطة الطريق" خطوات عدة تبدأ بانسحاب قادة "وحدات حماية الشعب" (الكردية)، ويليها تولي عناصر من الجيش والاستخبارات التركية والأميركية مهمة مراقبة المدينة. أما المرحلة الثالثة فتنص على تشكيل إدارة محلية في غضون 60 يوماً، بحيث يتم تشكيل المجلس المحلي والعسكري اللذين سيوفران الخدمات والأمن في المدينة، حسب التوزيع العرقي للسكان. لكن كل ما سبق لم ينفذ منه شيء سوى تسيير دوريات على جانبي الخط الفاصل بين المليشيات الكردية وفصائل "درع الفرات" المدعومة من تركيا.
وفي الأيام الأخيرة، ذكرت مصادر عدة أن الولايات المتحدة زوّدت المليشيات الكردية في المدينة بمعدات حفر، لاستكمال تطويق محيط مدينة منبج بالحفر والخنادق والمتاريس. وقالت مصادر محلية إن "شاحنات محمّلة بمعدات الحفر وبالأسلحة والعتاد وصلت من شمال العراق إلى المدينة، بما في ذلك ثلاث جرافات وحفارة إضافة إلى مدرعات من نوع "كوجار" سُلّمت لمجلس منبج العسكري. من جهته، كشف التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، أنه "أرسل مجموعة من الآليات والسيارات الخدمية إلى مدينة منبج، وذلك ضمن عملية إعادة إعمار المنطقة". وكانت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) قد سيطرت على منبج التابعة لمحافظة حلب السورية، في أغسطس/ آب 2016 بدعم أميركي، في إطار الحرب على تنظيم "داعش".
وحسب وكالة "الأناضول" التركية، فإن "الوحدات التركية بدأت في حفر محيط المدينة منذ سيطرتها على المنطقة العام الماضي، لكن وتيرة الحفر زادت بعد إطلاق الجيش التركي والجيش السوري الحر عملية (درع الفرات) في ريف حلب الشمالي، في الشهر ذاته"، مشيرة إلى أن "وتيرة الحفر انخفضت بعد قيام القوات الأميركية ببناء قاعدتين قرب مناطق (درع الفرات، في إبريل/ نيسان الماضي، لكنها عادت لنشاطها السابق بعد الاتفاق التركي الأميركي على خارطة الطريق".
وفي ضوء هذه المماطلة الأميركية في تنفيذ الاتفاق، عادت أنقرة إلى التلويح بالخيار العسكري لطرد المليشيات الكردية من المدينة الخاضعة لوضع عسكري وسياسي معقد بسبب تشابك المصالح الإقليمية والدولية فيها. وكانت الولايات المتحدة قد نشرت وحدات عسكرية في محيط المدينة مع تزايد فرص الصدام بين حلفائها الأكراد والقوات التركية في مارس/ آذار 2017، فيما نشرت روسيا بدورها قوات شرطة عسكرية في قرى تابعة لمنبج، كان الأكراد قد أخلوها مع تقدم القوات التركية، لتشغلها وحدات تابعة للنظام السوري. ووفرت المناورة الكردية للنظام السوري ممراً برياً أعاد ربط المناطق الخاضعة لسيطرته في أقصى الشمال والمعزولة عنها منذ اندلاع الثورة السورية بمحافظة حلب والمناطق الواقعة إلى الجنوب منها.
وبطبيعة الحال، يدرك النظام السوري وروسيا أنه ليس باستطاعتهما السيطرة على منبج بسبب خضوعها للحماية الأميركية، فيما لم تحقق جولتان من المفاوضات بين ممثلين أكراد والنظام أي تقدم لتحديد الوضع النهائي للمنطقة، ما يزيد من احتمال أن يعمد النظام إلى البحث عن وسائل بديلة للسيطرة عليها، مثل تعبئة الشبكات العشائرية الموالية له ضد المليشيات الكردية، خاصة مع تعثر التفاهمات بين تركيا والولايات المتحدة بشأن المدينة.
أما الخيار العسكري لتركيا في منبج، فيبدو هو الآخر محفوفا بالمخاطر، وقد تفضّل أنقرة المزيد من الصبر مع الولايات المتحدة بانتظار تحسن العلاقات بين البلدين لإعادة تفعيل خارطة طريق منبج. والواقع أنه منذ البداية كان هذا الاتفاق مشوباً بالغموض، ومثّل حلاً وسطاً في حينه بين الجانبين، سعت من خلاله واشنطن لامتصاص الاندفاعة التركية باتجاه منبج، من دون أن تكون مخلصة فعلاً للتقيد بمضمون الاتفاق.