الاستراتيجية التركية لمتابعة الموضوع كانت متعددة المسارات، ويمكن حصرها بثلاثة، سياسية وإعلامية وجنائية. من جهة، تواصلت مع السلطات السعودية وحثتها أكثر من مرة على التعاون في كشف ما لديها من معلومات، خصوصاً في ما يتعلق بكاميرات المراقبة في القنصلية. ومن جهة ثانية، أدركت تركيا مبكراً أهمية تشكيل رأي عام عالمي يدفع جميع الأطراف المدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان للاستمرار في الضغط على السلطات السعودية لكشف مصير خاشقجي.
في موازاة ذلك، ركزت تركيا على البعد الجنائي لكشف تفاصيل جريمة خاشقجي ودور الفريق الأمني السعودي الذي حضر إلى إسطنبول يوم اختفاء خاشقجي والذي وصفت ممارساته بأنها "ممارسات هواة".
على الصعيد السياسي، حاولت تركيا استيعاب الأمر، واستنفرت كل الإمكانيات، وفتحت قنوات التواصل مع الجانب السعودي، الذي تلكأ في التواصل على مدار يومين، وهو ما أوضحه ياسين أقطاي، مستشار الرئيس رجب طيب أردوغان، عندما تساءل "هل يعقل أن يختفي كل المسؤولين السعوديين من القنصلية والسفارة بعد يومين من الحادثة، ليظهروا وينفوا علاقتهم بالحادثة؟".
ومن الواضح أن تركيا حاولت حلّ الموضوع سياسياً دون الرغبة في التصعيد، لكن الرد السعودي جاء على لسان ولي العهد محمد بن سلمان، الذي قال في حوار مع وكالة "بلومبرغ" الأميركية إن بلاده لا علاقة لها باختفاء خاشقجي. ومن هنا بدأت المرحلة التالية التركية والتي تضمنت شقين. تمثل الأول في الدفع باتجاه اتفاق فيينا الذي ينظم العمل القنصلي بين الدول، والثاني بالتحرك دولياً عبر الإعلام الذي تجيده تركيا، فاستدعت السفير السعودي في أنقرة عبد الكريم الخريجي مرتين للخارجية وطلبت تفتيش القنصلية، وتم إبلاغ الحلفاء في الغرب بتطورات التحقيق.
وتصاعد هذا المسار بالكشف عن معطيات وصور تؤكد أن خاشقجي دخل القنصلية بالطرق العادية، أي يسير على قدميه، دون وجود أي صور لخروجه من أي مكان، بل تم الكشف عن إخراج حقائب وصناديق، بحسب التسريبات. كما حددت التحقيقات الجنائية أسماء الفاعلين المشتبه بهم وصورهم ووظائفهم، والمسارات التي اتبعوها. وبات أهم ما قاموا به موثقاً بالصور والفيديوهات.
أما الجانب الثاني، فيتعلق بالجزء الجنائي. وبات مؤكداً أن سرعة التدخل التركي أربكت فريق الاغتيال المكون من 15 سعودياً مشتبهاً به، وجعلته على الأرجح يبدل خططه من الاختطاف إلى القتل، بحسب التسريبات. وفور تبلغها بالقضية، طلبت السلطات التركية المعنية من خطيبة خاشقجي، خديجة جنكيز، أن تتقدم بالشكوى فوراً لقسم الشرطة ليبدأ العمل الجنائي. وكانت أولى الخطوات تفتيش الطائرات الخاصة التي قدمت إلى تركيا في المطار، وتفتيش ركابها، والبدء بعمليات التدقيق بآلاف الكاميرات التي تنتشر في شوارع وأحياء إسطنبول.
ولعل أهم جانب يجيده الأتراك، هو ممارسة السياسة عبر الإعلام. وفي هذا السياق، لجأت تركيا إلى مسار التسريبات الإعلامية. على الصعيد الرسمي، تم السماح لمقربين بالحديث لوسائل الإعلام، مثل ياسين أقطاي، مستشار أردوغان، ورئيس جمعية بيت الإعلاميين العرب في تركيا توران قشلاقجي، وهما اللذان تحدثا بشكل رسمي، فضلاً عن أحاديث إعلامية لمقربين آخرين من السلطات، فيما جرت التسريبات بشأن تفاصيل الجريمة أولاً للوكالات العالمية، والصحف الكبرى، ولاحقاً للإعلام المحلي.
وبعد يومين من الصمت عقب حادثة الاختفاء، جرت أولى التسريبات لوكالة رويترز التي نقلت عن مصادر تركية قولها إنها تعتقد أن خاشقجي قتل داخل القنصلية ونقل جسده للخارج، فيما سربت تركيا عبر وكالة الأناضول التركية الرسمية، الخبر عن وصول طائرات خاصة تقل 15 سعودياً تواجدوا في القنصلية بالتزامن مع وجود خاشقجي فيها.
وفي ظل تواصل النفي السعودي، انتقلت تركيا لمرحلة تسريبات أكبر وصلت إلى حد نشر صور وأسماء المشتبه بهم، ومشاهد تظهر دخول خاشقجي للقنصلية السعودية، ومشاهد للفريق المشتبه به في كل من المطار والفندق والقنصلية، فضلاً عن تقديم معلومات عن السيارات والمسارات التي سارت عليها.
وبقيت التسريبات التركية في الإعلام دون تأكيد من قبل مصدر رسمي، على أن يتم الكشف عن حقيقة ما جرى بالأدلة والبراهين التي تكشف المتورطين، في مؤتمر صحافي لم يحدد موعده بعد، تنشر خلاله مشاهد للفاعلين، ومرتكبي الجريمة.
ويبدو أن تأخر الإعلان الرسمي ينبع من عاملين، الأول استكمال إجراءات التحقيق الجنائي من خلال تفتيش القنصلية السعودية من قبل تركيا ومنزل القنصل السعودي محمد العتيبي، وهو ما لم تسمح به السعودية بعد رغم الموافقة الأولية. والعامل الثاني يتمثل في استكمال التواصل السياسي مع السعودية من جهة، والدول الغربية، لعل صفقة تعقد بتسليم المطلوبين، والكشف عن مصير خاشقجي، قبل الإقدام على أي تحرك دبلوماسي ربما يشهد مواجهة مباشرة بين البلدين، يكون الملف الجنائي ورقة الضغط التركية على السعودية.
بناء على ذلك، تتداول الصالونات السياسية في تركيا خيارات عديدة قد تلجأ إليها تركيا تدريجياً في حال ظلت المعطيات تؤكد خطف خاشقجي أو تصفيته، تبدأ بإجراءات دبلوماسية وسحب السفير وطرد ممثلي السعودية من أراضيها وصولاً إلى رفع القضية إلى مجلس الأمن الدولي، وربما رفع شكوى ضد الرياض أمام المحاكم الدولية.
وفي السياق، قال الكاتب والباحث جاهد طوز، المقرب من حزب العدالة والتنمية الحاكم، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "تركيا دولة قانون وتأخذ الموضوع حقوقياً بشكل كامل، فقد بدأت التحقيقات بشكل كامل وسيتم التفتيش في منزل القنصل وفي القنصلية، وبنتيجة التحقيقات ستعمل كافة المؤسسات الرسمية المعنية لتوضيح خريطة طريق وخطة التحرك".
وأوضح أنه "قبل انتهاء التحقيقات لا تتهم تركيا أحداً من البعثة السعودية هنا، لكن مع انتهاء التحقيقات وفي حال ثبت التورط السعودي، فإن تركيا كدولة قانون ستقدم على الخطوات المتناسبة مع القوانين والتدابير الدولية، كطرد السفير السعودي، ونقل الملف للمحكمة الجنائية الدولية، والأمم المتحدة، وهذه الخطوات ستتبع لاحقاً".
وأشار طوز، وهو نائب رئيس جمعية بيت الإعلاميين العرب، إلى أن "تركيا تدريجياً سربت الصور والفيديوهات، وأرسلت رسالة للسلطات السعودية والعالم بأن تركيا تعرف كل المعطيات، وهو ما يعني إبلاغ السلطات السعودية بالقيام بمسؤولياتها". ولفت إلى أن تركيا كانت واضحة لجهة أنها "ستقدم عبر الإعلام كل الدلائل، وعلى السلطات السعودية تقديم كل ما لديها من معلومات".
واعتبر طوز أنه من الناحية السياسية ستؤثر الجريمة "بشكل سلبي على علاقات أنقرة والرياض، وتركيا تتعامل مع الأمر على أنه تدخل بالسيادة التركية، وسينعكس ذلك على العلاقات الثنائية".
ولفت طوز إلى أن "القنصلية السعودية في إسطنبول، فتحت أبوابها لرويترز، وقال القنصل إن الكاميرات لا تعمل، وهذه القضية غير مقبولة، وإن لم تقدم السلطات السعودية على ما هو المطلوب منها، فستوزع تركيا على العالم ما لديها من معلومات".
وأكد أن تركيا تقوم بعملية تقييم قانونية للموضوع وفي نهاية التحقيق ستتخذ موقفاً واضحاً، و"لكنها الآن تدير الموضوع بحكمة وذكاء دون اتهام طرف، وتخريب أي علاقات، ولكن بنهاية التحقيقات وبحسب المعلومات التي ستحصل عليها، ستحدد استراتيجياتها".
ولطالما سعت أنقرة إلى تفادي أي تصعيد دبلوماسي مع الرياض رغم تعدد ملفات الخلافات بين الدولتين منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011 والموقف السعودي المعادي أصلاً لحكام حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي تعتبره السلطات السعودية أحد روافد تنظيم الإخوان المسلمين. ورغم ما قيل عن تورط سعودي بمحاولة الانقلاب التركية منتصف عام 2016، إلا أن الرئيس رجب طيب أردوغان وأركان حكومته تفادوا طرح الموضوع رسمياً لاعتبارات عديدة سياسية واقتصادية ومصلحية، وصولاً إلى اختلاف موقف البلدين من حصار قطر منذ صيف 2017 والانزعاج السعودي من الدور التركي في الملف الفلسطيني والسوري ودعم الرياض لأعداء تركيا من المسلحين الأكراد في سورية. لكن رغم كل الحرص التركي على تفادي أي أزمة دبلوماسية مع السعودية، كثيرون يعتبرون اليوم أنه ليس بوسع تركيا السكوت عن قضية جمال خاشقجي، لأن التورط السعودي يعتبر إهانة لتركيا بما أن العملية (الخطف أو التصفية) حصلت على أراضيها، وهو ما يعتبر ضربة سياسية أمنية لتركيا تمس بصورة الأمان في هذا البلد وللمقيمين فيه وتحدياً مقصوداً طبعاً لأنقرة. كذلك بدأت القضية تشكل تحدياً داخلياً لأردوغان ولحكومته على ضوء مواقف المعارضة التركية التي مثلها كلام زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلتشدار أوغلو، قبل أيام، والذي أوحى بأنه إن لم تتصرف الحكومة التركية لمحاسبة الرياض على خلفية جريمة خاشقجي، فإنها ستكون مسؤولة عن مس غير مسموح بالسيادة التركية.