الموصل تنكفئ على نفسها: القضايا السياسية خارج اهتمامات الشارع

27 أكتوبر 2018
الشأن السياسي بات من آخر اهتمامات الموصليين(زيد العبيدي/فرانس برس)
+ الخط -
بعد أن كانت تحتل لقب عاصمة العراق السياسية الثانية بعد بغداد، وعرف العراقيون من خلالها العشرات من السياسيين بمختلف توجهاتهم الإسلامية والقومية والشيوعية، الذين تصدّروا المشهد منذ مطلع القرن الماضي، تنكفئ الموصل على نفسها منذ أكثر من عام، وبالكاد خرج منها بضعة سياسيين فازوا بانتخابات البرلمان الأخيرة، فيما يقول أغلب السكان إنهم لا يعرفونهم أو إنهم ليسوا من أبناء الموصل الأصليين بل من أهل القرى والبلدات المحيطة بها، لذا فإن أغلبهم لا يتحدث اللهجة الموصليّة المعروفة لدى العراقيين. في المقابل، فإن زعامات سياسية أخرى برزت في الموصل بعد الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2013، لكن حظوظها في صدارة المشهد السياسي تراجعت على مستوى التمثيل العربي السنّي أو السياسي العراقي في الفترة الأخيرة.

يقول مسؤولون محليون في المحافظة إن سكان المدينة ككل غير مكترثين بالملف السياسي وبما يجري في العراق من حراك لتشكيل الحكومة وتسمية رؤساء للهيئات المستقلة، ولا حتى للحراك الداخلي في مجلس المحافظة لتسمية محافظ جديد وترميم الحكومات المحلية في أقضية ومناطق المحافظة، وهي صفة مشتركة لمدن عراقية أخرى تعرضت للدمار نفسه أو أقل خلال معارك تحريرها.

في مقهى تراثي قديم وسط الموصل على مقربة من ضفاف دجلة أعيد ترميمه أخيراً، يجتمع أكثر من 40 موصلياً غالبيتهم من متوسطي العمر وكبار السن، يقول صاحبه المعروف بالحاج أبو رامي، لـ"العربي الجديد"، إن "الشجار والعراك بين الزبائن لم يكن ينقطع بسبب النقاشات السياسية"، ويشير بيده إلى الطاولات في المكان قائلاً "هناك الناصريون، وهناك البعثيون، وهناك الشيوعيون، والعراك بينهم في نقاشاتهم كان يستدعي مرات أن يطردهم والدي، وهو كتب أكثر من مرة يافطة يمنع التحدث بالسياسة، لكن لا جدوى"، مضيفاً "أما الآن فلا أحد يتحدث بشيء من ذلك، فالمواطنون سئموا وبات كل همهم هو الحصول على ماء نظيف للشرب أو استصدار شهادة حسن سلوك من الجيش والاستخبارات كي لا يتم اعتقالهم، أو أنهم مشغولون في البحث عن أهلهم وأقاربهم"، مشيراً إلى أن "هناك حالة إحباط عامة من الوضع، والنقاشات السياسية حول العراق تلاشت من المقهى".

ويروي أن "حسن الحلبي، وهو عراقي وقومي ناصري قديم معروف في الموصل، رأيته يبكي على عدوه اللدود في نقاشات كل يوم، فتاح صغيّر، عندما عرف أنه قُتل مع زوجته وأطفاله في القصف الأميركي على المدينة خلال المعارك، وصغيّر كان شيوعياً معروفاً ومدرساً متقاعداً تخرّجت على يده أجيال كثيرة من الموصل، لذا حالة التنافس السياسي في الموصل كانت متحضرة قبل أن يأتي جيل سياسيي الدبابة الأميركية بعد عام 2003".


من جهته، يقول مستشار ديوان المحافظة السابق، رياض الحمداني، إن "الطبقة المثقفة تقلّص عددها بفعل قتلها من قِبل تنظيم داعش أو المليشيات أو القصف الجوي والصاروخي على المدينة". ويشير في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "الطبقة المثقفة أغلبها من الطبقة الفقيرة في الموصل وهذا معروف، وأغلب هذه الطبقة سُحق، فتنظيم داعش قتل العشرات منها بدعوى الإلحاد والقومية الكافرة أو رفض بيعة خليفة داعش إبراهيم عواد البدري المعروف بأبو بكر البغدادي، أو على يد مليشيات الحشد بدوافع طائفية، أو أنهم قضوا تحت أنقاض منازلهم، والآخرون إما نازحون أو أنهم عادوا، لكن أولوياتهم الآن ليس الحراك السياسي بل تأمين المسكن والخدمات".

أما رئيس مجلس محافظة نينوى، بشار الكيكي، فيقول لـ"العربي الجديد" إن "التنّوع في محافظة نينوى ككل منحها قوة على مدى تاريخها، وساهم في إثراء الساحة السياسية العراقية، لكن ما تعرضت له منذ عام 2003 وحتى الآن كان كفيلاً بتراجعها، ولولا الملف الأمني لأنتجت نينوى سياسيين أفضل بالتأكيد". ويعتبر أن "الملف الأمني والطائفية والمشاكل الاقتصادية منذ عام 2003 كلها عوامل تخنق الموصل، وجاءت بعدها صفحة تنظيم داعش، وكلها أثّرت بشكل كبير على الطبقة المثقفة التي هي ولّادة للسياسيين"، لافتاً إلى أنه "بسبب الإرهاب والمشاكل الأمنية والاقتصادية والى آخره من المشاكل التي لا تُعد، سكت كثيرون منهم، وآخرون اختاروا الخروج من الموصل، وبالتالي عندما أجريت الانتخابات أفرزت شخصيات دون المستوى المعروف لنينوى عموماً".

ويكشف أن "الموصل ولأول مرة في تاريخها تخلو من مقرات الأحزاب السياسية والحراك السياسي"، مضيفاً: "ثلاث سنوات أنهكت الموصل، وأهلها تعبوا كثيراً وعاشوا مرحلة صعبة جداً، والموضوع لا يمكن حصره بالحراك أو النقاشات السياسية في الموصل، بل بمرحلة كاملة في العراق بات الناس يتوجسون فيها ولا يريدون أن يتدخلوا بموضوع سياسي ولا حتى أن يدلوا بآرائهم".

وحول الموضوع نفسه، يقول الكاتب والباحث في الشأن الموصلي، عبدالله حمودات، لـ"العربي الجديد"، إن "الموصليين يواجهون في الوقت الحالي تحديات في الحصول على مقوّمات الحياة الكريمة، وإعادة بناء ما دمره داعش إبان فترة سيطرته على المدينة وما تلاها من عمليات استعادتها، ويقع في سلم الأولويات الحصول على مأوى وسكن مناسب، بعد أن تشرد الآلاف منهم وتهدم كثير من المنازل، وغاب عنهم الجهد الحكومي في تقديم تعويضات أو بدائل ملائمة لهذا"، مشيراً إلى أن "خيارات الناس في العمل والاسترزاق قليلة جداً، في ظل تدمير المراكز التجارية في الموصل، من بينها باب السراي والسرجخانة". أما عن الوجود السياسي، فيلفت حمودات إلى أن "تنظيم داعش عمل على إضعاف وتمزيق وبعثرة مراكز القوى السياسية والمجتمعية، وأسهم واقع ما بعد سيطرة التنظيم على المدينة في تعزيز قوة مجتمعية وسياسية على حساب أخرى، وأضحى تمركز المال والسلاح ضمن أطر معينة محدودة شكلّت الواقع السياسي للمدينة في ما بعد، ما دفع إلى بروز شخصيات تتحدث بلسان المدينة، على الرغم من أنها ليست منها".