لطالما بدا أن أنغيلا ميركل، التي تبلغ من العمر أربعة وستين عاماً، أمضت 13 منها في منصب المستشارية، لا ينال منها التعب. لكن الأزمات المتلاحقة داخل ائتلافها والانتقادات لسياسة الهجرة التي تتبعها أدت إلى إنهاكها بشكل لا يمكن إصلاحه.
وأعلنت ميركل لحزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي، اليوم الإثنين، أنها لن تبقى في منصب المستشارية مع انتهاء ولايتها الحالية في 2021، وكذلك عن منصب رئيس الحزب في ديسمبر/ كانون الأول.
اتخذت ميركل قرارها غداة نكسة انتخابية مني بها حزبا تحالفها في مقاطعة هيسن. وكانت قد بدأت ولايتها الرابعة بصعوبة على أثر مفاوضات شاقة. وانتهى الأمر بالناخبين للتعبير عن سأمهم من طريقة الحلول الوسط التي اتبعتها ميركل بين معسكرها المحافظ والاشتراكيين الديمقراطيين، مع صعود اليمين القومي.
سياسة اللجوء
كل شيء تغير صيف 2015، حين اتخذت ميركل قرارًا تاريخيًا بفتح بلادها أمام مئات الآلاف من طالبي اللجوء السوريين والعراقيين والأفغان الذين عبروا أوروبا سيرًا بعد المجازفة برحلات خطرة في البحر.
ورغم القلق المحيط بذلك، وعدت بدمجهم في المجتمع الألماني وحمايتهم. وقالت للألمان آنذاك: "سنتمكن من ذلك".
وحتى ذلك الحين، لم تكن ميركل، الحائزة إجازة دكتوراه في الكيمياء، تواجه مخاطر سياسية، مستفيدة من الازدهار الذي تحقق جراء إصلاحات غير شعبية قام بها سلفها الاشتراكي الديمقراطي غيرهارد شرودر.
وفي معرض تفسيرها لقرارها حول المهاجرين الذي اتخذته بدون التشاور فعليًا مع شركائها الأوروبيين، تتحدث ميركل باستمرار عن "القيم المسيحية"، وهذا مرده إلى أنها بنت قس نشأت خلف الستار الحديدي، وعرفت التقشف في ألمانيا الشرقية، بعدما قرر والدها الانتقال من الغرب إلى الشطر الشرقي من البلاد للمساهمة في نشر التعاليم المسيحية في الدولة الشيوعية.
في نهاية 2015، أثارت ميركل المشاعر عبر التقاطها صور "السيلفي" برفقة مهاجرين ممتنين لها. وتحولت ميركل التي وصفت بـ"النازية"، بسب سياستها المالية المتصلبة إزاء اليونان المديونة، إلى "ماما ميركل" لدى اللاجئين.
وبعد سنة، وإثر الزلزال الذي أحدثه وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، أطلق عليها سياسيون ووسائل إعلام أخرى لقب: "زعيمة العالم الحر".
اقــرأ أيضاً
لكن في الواقع، تغيرت الأمور في ألمانيا، حيث أصبح المهاجرون يثيرون القلق، وتزايدت المخاوف حيال الاعتداءات التي وقعت، وتحول قسم من قاعدتها الناخبة المحافظة إلى تشكيل حزب يميني متطرف هو "البديل لألمانيا".
وفي سبتمبر/ أيلول 2017، سجل هذا الحزب صاحب شعار "ميركل يجب أن ترحل"، دخولًا تاريخيًا إلى البرلمان، وكسر بذلك محرمات كانت سائدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كما تلقت ميركل ضربة إضافية في ديسمبر/ كانون الأول، حين تبيّن أنها لم تقدّم أبدا تعازيها لعائلات ضحايا الاعتداء دهسًا بشاحنة في نهاية ذلك العام في برلين، بعد أن تكشّف أن منفذ الهجوم باسم تنظيم "داعش" الإرهابي كان أحد طالبي اللجوء.
الميركيافيلية
في أوروبا أيضًا، أدت سياسة الهجرة التي اعتمدتها ميركل إلى إضعافها. فكما أنها ترفض مشاركة أعباء الديون، رفض تحالف شركائها مشاركة أعباء المهاجرين الذين أدخلتهم إلى البلاد.
وكانت ميركل تنجح في كل مرة بالنهوض من كل ضربة قوية، لتحقق في نهاية المطاف أهدافها.
وتبقى ميركل السياسية المحنكة التي قلل من شأنها كل المسؤولين المعاصرين في ألمانيا، بدءًا بالمستشار هلموت كول، مرشدها السياسي الذي وصفها بـ"الطفلة".
في العام 2000، اغتنمت فضيحة مالية داخل حزبها لإبعاد كول وخصومها من الذكور، الواحد تلو الآخر، بعد أن أساء هؤلاء تقدير قوة تلك المرأة التي كانت مترددة في بداياتها ولم تكن تعتني بمظهرها الخارجي.
وبعد خمس سنوات، هزمت المستشار الاشتراكي الديمقراطي اللامع شرودر في الانتخابات التشريعية.
وخلال 12 عامًا، نجحت في فرض أسلوبها الخارج عن الأنماط المعروفة، لكن مكانتها في التاريخ غير واضحة رغم طول المدة التي امضتها في السلطة.
بدت المستشارة، لوقت طويل، وكأنها لا تكترث لمقام منصبها، ولا سيما مع قلة اهتمامها بمظهرها وعدم إتقانها فن الخطابة. كما أنها تسكن في شقّة غير مزودة بوسائل الترف في وسط برلين. هواياتها المعروفة قليلة جدًا: الأوبرا والنزهات في منطقة تيرول الجبلية مع زوجها الثاني يواكيم ساور، وهو عالم يفضل البقاء بعيدًا عن الحياة العامة. وتشاهد بانتظام في سوبرماركت أسعاره متدنية وقريب من منزلها في برلين.
غير أن احتفاظ ميركل بسلوكها ومظهرها العاديين بقي لفترة طويلة ضمانة لشعبيتها لدى الناخبين، وثمة إرادة حديدية تكمن خلف البرغماتية التي تتحلى بها المستشارة ويعتبرها خصومها "انتهازية" تجيز لها التكيف مع تيارات الآراء السائدة.
ووصل الأمر بعالم الاجتماع أولريش بيك إلى ابتكار مفهوم أطلق عليه اسم "ميركيافيل" لوصف النهج الذي تتبعه، وهي كلمة مركبة من اسم المستشارة والسياسي والمفكر الايطالي ماكيافيلي، لوصف أسلوبها في الحكم القائم على مزيج من التريث والحزم.
وينعكس ذلك في ميلها إلى "الانتظار لفترة طويلة بشكل دائم، قبل الإدلاء أخيرًا بكلام حاسم"، وفق رأي الخبير السياسي تيلمان ماير من جامعة بون.
(فرانس برس)
وأعلنت ميركل لحزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي، اليوم الإثنين، أنها لن تبقى في منصب المستشارية مع انتهاء ولايتها الحالية في 2021، وكذلك عن منصب رئيس الحزب في ديسمبر/ كانون الأول.
اتخذت ميركل قرارها غداة نكسة انتخابية مني بها حزبا تحالفها في مقاطعة هيسن. وكانت قد بدأت ولايتها الرابعة بصعوبة على أثر مفاوضات شاقة. وانتهى الأمر بالناخبين للتعبير عن سأمهم من طريقة الحلول الوسط التي اتبعتها ميركل بين معسكرها المحافظ والاشتراكيين الديمقراطيين، مع صعود اليمين القومي.
سياسة اللجوء
كل شيء تغير صيف 2015، حين اتخذت ميركل قرارًا تاريخيًا بفتح بلادها أمام مئات الآلاف من طالبي اللجوء السوريين والعراقيين والأفغان الذين عبروا أوروبا سيرًا بعد المجازفة برحلات خطرة في البحر.
ورغم القلق المحيط بذلك، وعدت بدمجهم في المجتمع الألماني وحمايتهم. وقالت للألمان آنذاك: "سنتمكن من ذلك".
وحتى ذلك الحين، لم تكن ميركل، الحائزة إجازة دكتوراه في الكيمياء، تواجه مخاطر سياسية، مستفيدة من الازدهار الذي تحقق جراء إصلاحات غير شعبية قام بها سلفها الاشتراكي الديمقراطي غيرهارد شرودر.
وفي معرض تفسيرها لقرارها حول المهاجرين الذي اتخذته بدون التشاور فعليًا مع شركائها الأوروبيين، تتحدث ميركل باستمرار عن "القيم المسيحية"، وهذا مرده إلى أنها بنت قس نشأت خلف الستار الحديدي، وعرفت التقشف في ألمانيا الشرقية، بعدما قرر والدها الانتقال من الغرب إلى الشطر الشرقي من البلاد للمساهمة في نشر التعاليم المسيحية في الدولة الشيوعية.
في نهاية 2015، أثارت ميركل المشاعر عبر التقاطها صور "السيلفي" برفقة مهاجرين ممتنين لها. وتحولت ميركل التي وصفت بـ"النازية"، بسب سياستها المالية المتصلبة إزاء اليونان المديونة، إلى "ماما ميركل" لدى اللاجئين.
وبعد سنة، وإثر الزلزال الذي أحدثه وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، أطلق عليها سياسيون ووسائل إعلام أخرى لقب: "زعيمة العالم الحر".
لكن في الواقع، تغيرت الأمور في ألمانيا، حيث أصبح المهاجرون يثيرون القلق، وتزايدت المخاوف حيال الاعتداءات التي وقعت، وتحول قسم من قاعدتها الناخبة المحافظة إلى تشكيل حزب يميني متطرف هو "البديل لألمانيا".
وفي سبتمبر/ أيلول 2017، سجل هذا الحزب صاحب شعار "ميركل يجب أن ترحل"، دخولًا تاريخيًا إلى البرلمان، وكسر بذلك محرمات كانت سائدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كما تلقت ميركل ضربة إضافية في ديسمبر/ كانون الأول، حين تبيّن أنها لم تقدّم أبدا تعازيها لعائلات ضحايا الاعتداء دهسًا بشاحنة في نهاية ذلك العام في برلين، بعد أن تكشّف أن منفذ الهجوم باسم تنظيم "داعش" الإرهابي كان أحد طالبي اللجوء.
الميركيافيلية
في أوروبا أيضًا، أدت سياسة الهجرة التي اعتمدتها ميركل إلى إضعافها. فكما أنها ترفض مشاركة أعباء الديون، رفض تحالف شركائها مشاركة أعباء المهاجرين الذين أدخلتهم إلى البلاد.
وكانت ميركل تنجح في كل مرة بالنهوض من كل ضربة قوية، لتحقق في نهاية المطاف أهدافها.
وتبقى ميركل السياسية المحنكة التي قلل من شأنها كل المسؤولين المعاصرين في ألمانيا، بدءًا بالمستشار هلموت كول، مرشدها السياسي الذي وصفها بـ"الطفلة".
في العام 2000، اغتنمت فضيحة مالية داخل حزبها لإبعاد كول وخصومها من الذكور، الواحد تلو الآخر، بعد أن أساء هؤلاء تقدير قوة تلك المرأة التي كانت مترددة في بداياتها ولم تكن تعتني بمظهرها الخارجي.
وبعد خمس سنوات، هزمت المستشار الاشتراكي الديمقراطي اللامع شرودر في الانتخابات التشريعية.
وخلال 12 عامًا، نجحت في فرض أسلوبها الخارج عن الأنماط المعروفة، لكن مكانتها في التاريخ غير واضحة رغم طول المدة التي امضتها في السلطة.
بدت المستشارة، لوقت طويل، وكأنها لا تكترث لمقام منصبها، ولا سيما مع قلة اهتمامها بمظهرها وعدم إتقانها فن الخطابة. كما أنها تسكن في شقّة غير مزودة بوسائل الترف في وسط برلين. هواياتها المعروفة قليلة جدًا: الأوبرا والنزهات في منطقة تيرول الجبلية مع زوجها الثاني يواكيم ساور، وهو عالم يفضل البقاء بعيدًا عن الحياة العامة. وتشاهد بانتظام في سوبرماركت أسعاره متدنية وقريب من منزلها في برلين.
غير أن احتفاظ ميركل بسلوكها ومظهرها العاديين بقي لفترة طويلة ضمانة لشعبيتها لدى الناخبين، وثمة إرادة حديدية تكمن خلف البرغماتية التي تتحلى بها المستشارة ويعتبرها خصومها "انتهازية" تجيز لها التكيف مع تيارات الآراء السائدة.
ووصل الأمر بعالم الاجتماع أولريش بيك إلى ابتكار مفهوم أطلق عليه اسم "ميركيافيل" لوصف النهج الذي تتبعه، وهي كلمة مركبة من اسم المستشارة والسياسي والمفكر الايطالي ماكيافيلي، لوصف أسلوبها في الحكم القائم على مزيج من التريث والحزم.
وينعكس ذلك في ميلها إلى "الانتظار لفترة طويلة بشكل دائم، قبل الإدلاء أخيرًا بكلام حاسم"، وفق رأي الخبير السياسي تيلمان ماير من جامعة بون.
(فرانس برس)