صحيح أن جعجع وفرنجية التقيا مرات عدة بعد عام 2005، أي بعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، وانسحاب قوات النظام السوري من لبنان، ثم خروج جعجع من السجن، الذي سُجن فيه لـ11 عاماً، إلا أن اللقاءات لم تكن ثنائية، بل كانت ضمن سلسلة لقاءات في بكركي، برعاية البطريرك الماروني بشارة الراعي، وضمّت إليهما، كلاً من رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون ورئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميّل.
أُطلقت على تلك اللقاءات تسمية "اللقاء الرباعي"، لكنه لم يُفض إلى نتيجة عملية، فالمسيحيون لم يتفقوا على مرشح رئاسي، كما لم يتفقوا على قانون انتخابات موحّد. وهو ما أفضى لاحقاً إلى قيام ثنائية بين عون وجعجع في مواجهة الجميع، عبر "اتفاق معراب"، الموقّع في 18 يناير/كانون الثاني 2016، والذي تبنّى بموجبه جعجع ترشيح عون لرئاسة الجمهورية، لقطع الطريق أمام فرنجية بالذات.
لكن سرعان ما دخلت العلاقة بين عون وجعجع في ظروف توتر، إذ يتهم التيار الوطني الحرّ (حزب عون) القوات اللبنانية بـ"محاربة العهد الرئاسي"، بينما يتهم القواتيون التيار بأنه "انقلب على اتفاق معراب". في المقابل، فإن "المردة"، الذي خاض رئيسه فرنجية، معركة رئاسية خاسرة مع عون في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016، بقي خارج التوازنات الجديدة. كما إن الانتخابات النيابية الأخيرة، في 6 مايو/أيار الماضي، دفعت بالقوات إلى الحلول ثانياً (15 نائباً) في الصف المسيحي خلف التيار الوطني الحرّ (17 نائباً + 12 حلفاء)، بينما اكتفى "المردة" بالحصول على نائبين (+ 6 حلفاء). وعليه، ظهر وكأن التيار الوطني الحرّ يريد الاستئثار بالتمثيل المسيحي في الحكومة وإدارات الدولة، بصورة أكبر من الحسابات، ما عجّل من لقاء المتضررين من تلك السياسة.
وقد سبقت لقاء فرنجية وجعجع المرتقب، زيارةٌ للنائب نديم الجميل إلى بنشعي، معقل فرنجية، في سبتمبر/أيلول الماضي. تخلل اللقاء وضع الجميل إكليل ورد على قبر طوني فرنجية. وأهمية هذا الحدث، تكمن في أن بشير الجميل، والد نديم، هو من أمر بالهجوم على إهدن في 13 يونيو 1978 وانتهت بالمجزرة المعروفة.
الأهم هو أن جعجع الذي بدا وكأنه يسعى لترتيب صورة راسخة في لاوعي خصومه بأنه أمير حرب متهم بارتكاب جرائم كبيرة، يطرق الأبواب التي هاجمته سابقاً. فخلال توقيع اتفاق معراب، بدا أنصار التيار الوطني الحرّ، وكأنهم في طليعة المؤيدين لجعجع وللتفاهم، قبل اتهامه أخيراً بأنه "السبب في عرقلة مسيرة العهد"، وأعادوا فتح ملفات الحرب الأهلية. أنصار "المردة" أيضاً ظلّوا إلى وقتٍ قريب يعتبرون أن جعجع قاتل طوني فرنجية وأن لا مجال للمصالحة التامّة معه، معللين ذلك بالقول إن "فرنجية سامح مع انتهاء الحرب". لكن كل ذلك لا يغيّر من الواقع اللبناني شيئاً: كلما التقى اثنان من المسيحيين، فإن ضحيتهما تكون طرفاً ثالثاً. ففي اتفاق عون وجعجع، كانت واضحة رغبتهما في احتكار التمثيل المسيحي، وإبعاد فرنجية والجميّل عن الساحة. الأمور اختلطت، وعلى قاعدة "ألا أحد قادر على إلغاء أحد"، بدا أن فرنجية وجعجع يعملان على صدّ هجوم التيار الوطني الحرّ السياسي وفي إدارات الدولة. مع ذلك، فإن إشكالية أخرى برزت، إذ إن التيار الوطني الحرّ والكتائب بدآ بدورهما محاولات للتفاهم الثنائي، منعاً للعزلة في مقابل القوات والمردة.
يبقى السؤال: ماذا يمكن أن ينجم عن لقاء جعجع وفرنجية؟ الفريقان يصرّان على أن "اللقاء هو للمصالحة التامّة، وإراحة الشمال اللبناني من الإشكالات والتشنّج غير المبرر". ربما سيكون هذا الأمر صحيحاً، ففي الخيارات السياسية، لا يتفق الفريقان بشيء. "المردة" حليف النظام السوري وحزب الله، و"القوات اللبنانية" حليفة السعودية و"عدوّة" حزب الله والنظام السوري. كما أن جعجع الذي حل ثانياً في "الساحة المسيحية" في الانتخابات النيابية في مايو/أيار 2018، لن يسمح بتجيير أصوات كتلته إلى فرنجية في أي معركة رئاسية مقبلة، والمفترض حصولها في عام 2022، على اعتبار أن "الأقلية هي من تمنح الأكثرية لا العكس". أما خيار فرنجية في احتمال ترشيح جعجع للرئاسة، فدونها عقبات، إذ إن حليف المردة، حزب الله، غير مؤيد بالمطلق لفكرة خلافة جعجع لعون في بعبدا، لا بل إن الحزب مستعد لتبنّي ترشيح وزير الخارجية، صهر عون، جبران باسيل للرئاسة، على حساب جعجع أو غيره.