في الأصل، لا يبدو هذا التحالف مغايراً لما سبقه، بل إنّه يحمل التناقضات الداخلية نفسها التي عصفت بالتحالف الأول، وطرحت أسئلة حقيقية حول مدى الالتقاء الممكن بين الإسلاميين والعلمانيين. وهي صيغة يعتقد كثيرون في تونس أنها ستفرض نفسها على اللاعبين السياسيين لفترات انتخابية كثيرة مقبلة بحكم النظام الانتخابي.
وعبثاً حاول "نداء تونس" دعوة الأحزاب إلى تشكيل حكومة بدون "النهضة"، ولكن هذه الدعوة أتت متأخرة جداً ولم تلق اهتماماً من قبل الأحزاب، وتحوّلت إلى مجرّد شكل من أشكال التشويش على التعديل الجديد، فتشتّتت القوى المنتمية لما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية"، فيما منع تنافسها الشديد حتى مجرّد البحث عن إمكانية تحقيق هذه الصيغة. ولا يزال "تجميع العائلة الوسطية الديمقراطية" مجرّد شعار تتنافس عليه الشخصيات الحزبية، وتحلم بقيادته في الانتخابات المقبلة. فقد سبق للشاهد نفسه أن دعا لتجميع هذه العائلة، في حين دعا محسن مرزوق، على هامش اجتماع لحركة "مشروع تونس" بمدينة منستير "القوى الوطنية العصرية" كافة للالتفاف حول مشروع سياسي موحّد استعداداً للاستحقاقات الانتخابية المقبلة، معبّراً عن أمله في انضمام حركة "نداء تونس" إلى هذا المشروع.
كذلك، وصف مرزوق في تصريح لإذاعة "جوهرة" المحلية، الاتصالات التي أجرتها حركة "مشروع تونس" مع حركة "النهضة" بـ"العادية جداً"، مشدداً على أنّ حركة "النهضة" تبقى دائماً منافساً سياسياً لحزبه الذي "بقي دائماً متمسكاً بمواقفه"، بحسب تعبيره. ومرزوق نفسه وصف منذ حوالي سنة، التوافق بين حركتي "نداء تونس" و"النهضة" بـ"التوافق الفاشل والمغشوش والقائم ضدّ إرادة الناخبين"، معتبراً أنّه "بمثابة الاندماج القائم على ابتلاع النهضة للنداء"، وأن "ما بقي من النداء سيدفع الثمن وستبتلعهم النهضة ولن تهضمهم". وشدّد مرزوق على أنّ ذلك التوافق "فيه خطر على التعددية وعلى الديمقراطية في تونس".
كان هذا مجمل الكلام القديم تقريباً، ولكنه اليوم تغيّر بفعل الظروف السياسية الجديدة، ما يجعل من السؤال حول متانة التحالف الجديد سؤالاً مشروعاً ومنطقياً، ويحيل في الوقت نفسه إلى مبررات هذا التحالف ومداه السياسي وأفقه المتعلّق بأجندة المرحلة المقبلة.
وفي السياق، قالت مصادر حزبية لـ"العربي الجديد"، إنّ هذا التحالف "كان عشوائياً أملته الظروف والمتغيّرات السياسية السريعة، ولكنه يمكن أن يشتدّ ويقوى مع الأيام بفعل التقارب وتجربة الحكم المشتركة، ولكنه في الوقت نفسه سيجبر على الدخول في اختبارات عديدة أيضاً. فهناك اختبار قانون المساواة في الإرث وقانون الحريات الفردية وانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية ورئيس هيئة الانتخابات، وكلها فخاخ فكرية وسياسية قد تعرّي هشاشة هذا التحالف وتضربه في العمق". لكنّ المصادر استدركت بالقول إنّه "إذا تمكنت هذه الترويكا الجديدة من تجاوز كل ذلك، فقد تكون قد مهّدت لإمكانية مواصلة لقائها وتشكيل قوة حقيقية بإمكانها الالتقاء من جديد بعد انتخابات 2019".
ويرى مطلعون على مجريات الأحداث في تونس، أنّ تشكيلة الشاهد الجديدة تحمل في طياتها رسائل متعددة للداخل والخارج، وإشارات مهمة قد تكشف ما خفي من اتفاقات ثنائية أو متعددة، أو على الأقل إعلان نوايا عن بدء الاستعداد للمرحلة المقبلة. كما يعتبر كثيرون أنّ دخول كمال مرجان للتشكيلة الحكومية الجديدة بحقيبة متواضعة سياسياً، على أهميتها الإدارية (وزير الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة والسياسات العمومية)، بعدما كان وزيراً للخارجية قبل الثورة، يحمل في طياته إشارات مهمة لهذا التعيين الجديد، إذ يعكس رغبة في استمالة الدستوريين والتجمعيين (التجمّع الدستوري الديمقراطي التابع للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي)، ولا سيما أنهم يشكّلون ماكينة انتخابية مهمة ساهمت في دفع "نداء تونس" في الانتخابات الماضية. كما أنّ مرجان يمثّل ثقل جهة الساحل المؤثرة سياسياً في المشهد الوطني، فضلاً عن علاقاته الدولية الواسعة.
ويعتبر البعض أنّ إظهار كمال مرجان في التشكيلة الحكومية قد يكون في إطار إبرازه للصورة بغية الإعداد للانتخابات المقبلة، وربّما ترشيحه للرئاسة في إطار صفقة بين الشاهد و(رئيس حركة النهضة راشد) الغنوشي ومرزوق، يجري توزيعها في ما بعد بحسب نتائج الانتخابات واختبار هذا التحالف وتجربته على أرض الواقع.
وعلى الرغم من أنّ هذا الأمر يبدو الحديث عنه مبكراً جداً، إذ يخفي كل طرف أوراقه في انتظار أن تتضح الرؤى وامتحان نوايا الطرف الآخر، فإنّ هذا التحالف أو الائتلاف الوطني، تنتظره اختبارات جدية كثيرة، خصوصاً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، بينما يتكاثر منافسوه وخصومه. وستكشف الأيام المقبلة مدى قدرته على الصمود أمام الهزات الاجتماعية إذا لم يحسن التعامل مع الملفات الحارقة، وخصوصاً أنّ المنظمة النقابية تُمارس كل ضغوطها على الحكومة بغية تحقيق مكاسب للعمال أمام تدهور المقدرة الشرائية.