ويأتي هذا بعد نحو شهرين من استقبال السيسي في نيويورك بأسئلة عن القانون، الذي كان قد أصدره بعد لقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في القمة الإسلامية الأميركية بالسعودية، ثمّ فوجئ بالاعتراض الأميركي عليه مع استمرار الاعتراضات الأوروبية. وتعهّد الرئيس المصري أكثر من مرة، أبرزها أثناء حضوره اجتماعات الدورة الماضية للأمم المتحدة، بتعديل القانون ليصبح أكثر ديمقراطيةً وتماشياً مع الأسس الدولية المتضمّنة في اتفاقات حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة والموقعة عليها مصر.
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد"، في تصريحات سابقة، إنّه تمّ توزيع تقرير خلال رحلة السيسي لحضور اجتماعات الأمم المتحدة الأخيرة، ذكر أنّ "الرئاسة عندما أصدرت هذا القانون كانت تستجيب لرغبة السلطة التشريعية التي اقترحته وأقرته، ورغم ذلك، فإنّ الحكومة تلقّت تعليمات من السيسي بتعطيل تنفيذه لحين إجراء حوار مجتمعي حوله ومن ثم تعديله بما يضمن تخفيف القيود على المنظمات الأجنبية العاملة في مصر، أي أنّه في حكم القانون المجمّد بدون قرار رسمي بذلك".
ويعتبر ملف تعديل هذا القانون من بين المسائل التي تثير حساسية بين النظام الحاكم والحكومات الغربية بسبب تأكّدها من تلاعب النظام وعدم وفائه بتعهداته، لا سيما أنّ لديهم معلومات موثوقة بأنّ القانون ينفّذ على نطاق معين رفيع المستوى، وهو الخاص بسلطات وصلاحيات اللجنة العليا لتنظيم عمل الجمعيات الأهلية الأجنبية، والتي يغلب على تشكيلها الطابع الأمني والاستخباراتي. فقد قرّرت هذه اللجنة سراً تعليق عدد من الأنشطة لجمعيات مدعومة من دول أوروبية وأخرى تابعة مباشرة لتلك الدول، بحجة استيفاء الشروط الأمنية وعدم ملاءمة بعض الأنشطة للمجتمع المصري، رغم انحصارها في مجالات التعليم والثقافة وتوعية النساء.
وتعليقاً على المستجدات الخاصة بتعديل القانون؛ قالت مصادر حكومية بوزارة التضامن الاجتماعي إنّ القانون سيخضع بالفعل لتعديل ليصبح قريباً من المشروع الذي كانت قد تقدّمت به الوزيرة غادة والي وتمّ رفضه من قبل الاستخبارات العامة ومستشارة السيسي لشؤون الأمن القومي السفيرة فايزة أبو النجا. وهو مشروع يوسّع سلطات الوزارة ويقلّص الدور المنصوص عليه صراحة في القانون الحالي للأجهزة الأمنية والاستخباراتية، لكن لا توجد خلافات جوهرية بين مشروع الوزيرة والقانون، إذ يحافظ الاثنان على فلسفة السيطرة على منابع التمويل وقنواته، وأحقية الجهات الحكومية المختصة في منع وصول التمويل إلى الجمعيات، وسلطتها في إقرار أو رفض التغييرات الهيكلية واللوائح الداخلية للمؤسسات.
وعلى رأس المواد التي قد يطاولها التعديل: المادة رقم 2 الخاصة بشروط الإخطار بتأسيس الجمعية، والمادة 13 الخاصة بنطاق عمل الجمعيات، والمادة 41 الخاصة بسلطة المحكمة المختصة عزل مجلس الإدارة بناء على طلب الجهة الإدارية وتعيين مجلس إدارة جديد وكذلك الأحوال الموجبة لذلك، والمادة 60 بشأن شروط عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية، والمادة 70 بشأن إنشاء الجهاز القومي لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية بمعزل عن وزارة التضامن، على أن يشكّل من ممثلين لوزارات سيادية وأجهزة الأمن والاستخبارات.
وأضافت المصادر الحكومية أنّه على الرغم من عدم صدور لائحة تنفيذية للقانون الحالي، وعدم تشكيل اللجان العليا المنصوص عليها لتطبيقه، إلّا أنّ وزارة التضامن كانت قد بادرت بتطبيق بعض نصوصه الخاصة بحل الجمعيات وتصفيتها، إذ رفعت دعاوى عدة أمام مجلس الدولة بهذا الغرض، فيما تنتمي قيادات معظم الجمعيات المراد حلّها إلى جماعة "الإخوان المسلمين" والتيار السلفي.
وبسبب عدم تشكيل اللجان المشار إليها، والتي يغلب عليها الطابع الأمني والاستخباراتي، ظلّت مديريات التضامن بمختلف المحافظات هي المختصة بتلقي أوراق إشهار الجمعيات وتأسيسها وتغيير هياكلها. وتستعين المديريات في تقييمها الأوراق المقدمة لها، برأي جهاز الأمن الوطني بصورة غير رسمية، في ظلّ عدم وجود نصوص تنظّم العلاقة بين الإدارة التنفيذية والجهة الأمنية في هذا الشأن.
ونتيجة لذلك، توسّعت وزارة التضامن ومديرياتها في اتخاذ إجراءات تقيّد تأسيس الجمعيات وتلقيها للدعم المالي والعيني، بما في ذلك من السفارات والجهات الغربية الحكومية المانحة، من باب تلبية أهداف النظام من القانون القائم، من دون تطبيقه بحذافيره، وتماشياً مع اتصالات سابقة بين الرئاسة ووزارة الخارجية من جهة، والخارجية الأميركية وسفارات دول غربية من جهة أخرى، عن ضرورة تعطيل عمل المنظمات والمؤسسات الأميركية المانحة لمنظمات المجتمع المدني غير الحكومية في مصر، بحجة وجوب توفيق أوضاع هذه المنظمات المصرية أولاً، التزاماً بالقانون الحالي.
وهدفت هذه الاتصالات، بحسب المصادر الحكومية، إلى تجفيف منابع تمويل المنظمات الأهلية القائمة بصورة غير مشروعة، وكذلك وقف الأنشطة السياسية والتثقيفية والاجتماعية غير المرغوب فيها، مع إجراء تعديل عاجل في سياساتها ونطاق عملها، بحيث يتم التركيز على الأنشطة التعليمية والتثقيفية والابتعاد عن القضايا السياسية الخلافية مع النظام خشية تعطيل أعمالها في مصر. وكذلك الابتعاد عن التواصل مع جماعات الضغط السياسي من الأحزاب اليسارية والمنظمات الحقوقية غير المعترف بها من قبل الحكومة أو النشطاء المشمولين في تحقيقات قضية "التمويل الأجنبي" الجارية حالياً.
ونتج عن هذه الاتصالات تراجع أعمال التنمية المجتمعية المدعومة من دول أوروبية إلى أدنى مستوياتها، بحسب مصدر دبلوماسي أوروبي، أوضح لـ"العربي الجديد" أنّ تعديل القانون لن ينعكس بالإيجاب على الوضع الحالي، الذي تمارس فيه الحكومة الضغوط "عرفياً" لإجبار الدول الغربية على توجيه الدعم إلى جمعيات بعينها يؤيد مديروها النظام الحاكم، رغم عدم تمتعها بالخبرة الكافية في مجالات العمل الإنساني أو الحقوقي.
وأضاف المصدر الأوروبي أنّ "بعض الدول، كألمانيا والسويد والدنمارك وهولندا، اضطرت لتوجيه الدعم إلى جمعيات جديدة أو أخرى غير مختبرة من قبل، لإتمام مشروعات المساعدة التي بدأت بالفعل. فهناك قائمة طويلة من الجمعيات القائمة المحظور التعامل معها بسبب مواقفها السياسية، أو تصنيفها أمنياً، وفي حالة الإصرار على إرسال تمويل لها، يتم تجميده من دون مبررات".
ويعكس حديث المصادر الحكومية والمصدر الأوروبي تشكيكاً في نوايا تغيير الواقع العملي الذي خلقه نظام السيسي رغم ادعائه تجميد القانون طوال عام ونصف العام، مع ترقّب الإجراءات التي سيتخذها مجلس الوزراء بشأن الحوار المجتمعي المشار إليه.
وكانت السويد قد ألغت في سبتمبر/ أيلول الماضي اتفاقها مع مصر بشأن المعهد السويدي المقام في الإسكندرية، وأعلنت نقل مقر المعهد بشمال أفريقيا إلى دولة أخرى، وذلك بعد أشهر قليلة من انتقادها الإبقاء على قانون العمل الأهلي، وتهديدها بوقف تمويل مشروعات تنموية وتعليمية.
وكانت منظمات حقوقية مصرية عدة قد أصدرت بيانات دعت فيها إلى الضغط على الحكومة المصرية لوقف إصدار القانون، ثم لتعديله. وذكرت بعض تلك البيانات أن إصدار القانون يأتي في إطار أسوأ حملة لغلق المجال العام وتقييد الجمعيات الأهلية في تاريخها، كما أنه يقوّض الحريات التي اكتسبت بعد ثورة 2011 التي أنهت حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وفي هذا الإطار، كتبت الناشطة المصرية، آية حجازي، التي أفرج عنها السيسي بعد الحكم عليها في قضية جنائية، بطلب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في أغسطس/ آب 2017، دعت فيه الإدارة الأميركية إلى حجب المساعدات التي تقدمها واشنطن إلى القاهرة وربطها بإحراز تقدّم في مجال حقوق الإنسان، وبعدها قرّرت واشنطن تجميد نحو 290 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر لمدة 13 شهراً.