تزداد الضغوط الإيطالية على مصر لانتزاع معلومات إيجابية في قضية مقتل الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، في القاهرة مطلع العام 2016. فبالتوازي مع تسريب معلومة من الادعاء العام في روما عن توصل فريق التحقيق المكلف بالقضية إلى قائمة بأسماء عدد من ضباط الشرطة والاستخبارات المصريين المتورطين في الجريمة، صدرت، خلال اليومين الماضيين، تصريحات متوالية من رئيس مجلس النواب ووزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء تهدد ضمنياً أحياناً وصراحة أحياناً أخرى بقطع العلاقات مع مصر إذا لم تتعاون في القضية. لكن الجانب المصري التزم الصمت تماماً من الناحيتين الدبلوماسية والقضائية، عدا تعليق مقتضب صدر عن رئيس مجلس النواب، علي عبد العال، استهجن فيه ما وصفه "القفز الإيطالي على نتائج التحقيق".
وقد تواصل عدد من مسؤولي وزارتي الخارجية في البلدين حول أسباب "الصحوة الإيطالية" التي تلت شهوراً طويلة لم تتحرك فيها القضية قيد أنملة، وكان الطرفان يتشدقان باستمرار التعاون القضائي "البناء"، رغم عدم وجود أي تطور على الأرض، وفشل الجهود الإيطالية في التوصل إلى طبيعة ما حدث للطالب ريجيني في آخر يومين قبل مقتله. وأوضحت مصادر دبلوماسية، لـ"العربي الجديد"، أن العامل الأول الذي أحدث التغيير هو إصرار النيابة العامة المصرية على عدم منح نظيرتها الإيطالية تفاصيل التحقيقات التي من المفترض أنها أجرتها في قضية مقتل أفراد عصابة السرقة التي ادعت الشرطة أنها هي التي اختطفت ريجيني بدافع السرقة وعذبته حتى الموت ووجدت الشرطة متعلقاته مع أفرادها، وهي الرواية التي اضطر النائب العام المصري لإعلان عدم معقوليتها تحت ضغط الإيطاليين منذ أكثر من عام.
فالجانب المصري يعتبر أن هذه القضية "مختلفة" عن قضية ريجيني، ويريد فصل التحقيقات فيها عن التحقيق الأصلي الذي يتيح للإيطاليين الاطلاع عليه، وهو ما تراه روما أمراً غير منطقي، وتريد توجيه اتهام قتل ريجيني مباشرة للضباط الذين تورطوا في "تأليف" سيناريو عصابة السرقة، ليس بالضرورة لأنهم من أشرفوا على تعذيب وقتل ريجيني، ولكن لأنهم بالتأكيد يدركون كيف وصلت إليهم متعلقاته، وأين كانت هذه المتعلقات، والشخصيات التي أشعرت إليهم بمحاولة إنهاء القضية بهذه الصورة الساذجة التي لم يكتب لها النجاح. وأعلنت النيابة سلفاً أن التحقيقات أثبتت كذب الرواية الأمنية التي روجتها الداخلية المصرية في مارس/آذار 2016 عن مسؤولية تشكيل عصابي من 5 أشخاص، من ذوي السوابق الجنائية، بقتل ريجيني بدافع السرقة، وأجريت مواجهة مع ضباط الشرطة الذين ارتكبوا جريمة تصفية هؤلاء الخمسة وبعض عناصر الأمن الوطني والأمن العام، لكن النائب العام المصري لم يرفع حظر النشر الذي فرضه على القضية منذ ظهور تلك الرواية، ولم يتم تقديم المسؤولين الأمنيين قاتلي أفراد العصابة للمحاكمة.
وأكدت التسريبات التي تداولتها الصحف الإيطالية أخيراً ما نشرته "العربي الجديد" في سبتمبر/أيلول الماضي عن إرسال المدعي العام الإيطالي خطاباً للنائب العام المصري طلب فيه تقريراً أصلياً وافياً بما أجرته النيابة المصرية في واقعة مقتل أفراد عصابة السرقة. ولم يكن سبق أن طلب الإيطاليون التحقيق في هذه الواقعة باعتبارها خارجة عن الإطار العام للقضية، لكن إزاء حالة الجمود الآنية وفشل استرجاع البيانات، لم يعد أمام روما إلاّ محاولة حصار السلطات المصرية للتوصل إلى دوافع محاولة إسناد الاتهام لمجموعة من "الأشقياء"، بل وإظهار مقتنيات ريجيني في منزل أحدهم كدليل على تورطهم. وبحسب المصادر الدبلوماسية فإن مساعدي النائب العام المصري كانوا قد أبلغوا روما بأنه يجري التحقيق في شبهة صلة العصابة بقتل ريجيني لحساب جهاز أو مسؤول أمني، بعد إخضاعه للمراقبة بناء على بلاغ نقيب البائعين الجائلين، وتعذيبه احترافياً لأيام، بهدف إبعاد الشبهة عن الشرطة، ولم يكن الأمر يخرج عن هذا الإطار.
أما العامل الثاني، فكشفت المصادر أنه يتمثل في اتجاه النيابة العامة المصرية في الاجتماع الأخير الذي تفجر بعده مسلسل الضغوط الإيطالية إلى تجاهل قصة عصابة السرقة، وحتى قصة تتبع خطوات ريجيني في الساعات السابقة على اختفائه، إذ كانت تريد فقط التركيز على ما إن كانت الدراسات التي أجراها ريجيني أدت به للتعامل مع "أجهزة أمنية أو استخباراتية أجنبية أو منظمات مجتمع مدني ممولة من الخارج لممارسة أنشطة خارجة عن القانون المصري"، وهو المسار الذي اعتبره الجانب الإيطالي عودة إلى المربع الأول، ومحاولة جديدة للتضليل.
أما العامل الثالث، فهو أن المدعي العام الإيطالي طلب من وزير الداخلية ورئيس مجلس النواب سرعة التصرف للضغط سياسياً على مصر، بعدما تبين أنه من المرجح الوصول لموعد الذكرى الثالثة لمقتل ريجيني دون تحقيق أي تقدم يذكر، الأمر الذي سيضع الادعاء الإيطالي في مأزق أمام الرأي العام، فضلاً عن التصعيد السياسي الذي تمارسه أحزاب المعارضة استغلالاً لحالة الجمود، لا سيما أن حكومة رئيس الوزراء، جوزيبي كونتي، لم تتخذ أي إجراء تنفيذي يشعر الإيطاليين باهتمامها بالقضية. بل إن تصريحات وزير الداخلية، ماتيو سالفيني، كانت تصب دائماً في خانة استحالة ممارسة ضغوط أكثر على مصر، وآخرها كان، الخميس الماضي، بقوله "نحن نحكم إيطاليا ولا نحكم مصر".
لكن السؤال المطروح الآن، وإجابته لدى روما، هو هل الأسماء التي بحوزة فريق التحقيق الإيطالي هي فعلاً المتورطة أم لا صلة لها بما حدث، وبالتالي قد ينتهي الأمر إلى لا شيء؟ ووجهت "العربي الجديد" هذا السؤال إلى مصدر قضائي مصري تعامل مع الإيطاليين في القضية منذ 2016 وحتى منتصف العام الحالي، قبل أن يبتعد عن الملف، فقال إن "جلسات المباحثات المشتركة كانت تكشف أن الجانب الإيطالي يعرف بعض المعلومات التي لا يرغب المصريون في إعلانها، بواسطة طرق استخباراتية على الأرجح"، مشيراً إلى ثقة مصر بأن "إيطاليا لا تعمل وحدها على هذا الملف، بل تتلقى معلومات من جهات استخباراتية أخرى". وأضاف المصدر القضائي أن "هناك أسماء ضباط في الاستخبارات والشرطة ذكرت مراراً في ملف التحقيقات، منها شخصيات أخضعت للتحقيق بالفعل، وجميعها نفت صلتها بما حدث. ولذلك فإن الجانب الإيطالي يبدو متحفظاً في وصف اللائحة التي يعكف على إعدادها وسيصدرها قريباً بحسب التأكيدات المنشورة في وكالة الأنباء الإيطالية الرسمية، إذ وصف القائمة بأنها تضم أشخاصاً مشتبها بهم، وليسوا متهمين، على أساس أن تطالب روما رسمياً بإخضاعهم للتحقيق، فإذا لم يخضعوا، يمكنها رفع أسمائهم إلى الإنتربول أو أي جهة قضائية دولية كمطلوبين للمثول أمام السلطات القضائية". وأكد المصدر أن مصر ما تزال ترفض إرسال أي مسؤولين أمنيين للتحقيق معهم في روما، لكنها أرسلت تقارير مترجمة من التحقيقات التي أجراها فريق التحقيق المصري المختص مع رجال الأمن بمحطة المترو، وجميعهم من أمناء وأفراد الشرطة، وتمت ترجمة الأوراق بواسطة مترجمين معتمدين لدى الجهتين. وفي المقابل لم تسلم إيطاليا للنيابة العامة المصرية تفاصيل التحقيقات التي أجرتها مع الأكاديمية المصرية مها عبد الرحمن، الأستاذة بجامعة "كامبريدج" والمشرفة العلمية على ريجيني، في مقر الجامعة وليس في إيطاليا، وكذلك تفاصيل الاتصالات التي جرت مع بعض الأكاديميين الذين أشرفوا على عمل ريجيني بالقاهرة، بل سلمتها فقط تقريراً قصيراً بالنتائج.
وبالعودة إلى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فرغم الضغوط المتزايدة، والتي كانت "العربي الجديد" أول من نشر عنها أيضاً في سبتمبر/أيلول الماضي لدى بدئها سراً، تبدو فرص قطع العلاقات، أو سحب السفير الإيطالي، بعيدة، بسبب ارتباط البلدين بالعديد من الملفات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية. فمن ناحية يلعب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دوراً كبيراً في الوساطة بين إيطاليا وقائد قوات برلمان طبرق، اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، وهو ما ظهر بوضوح في مؤتمر باليرمو الأخير، والذي حضره السيسي بعد إلحاح إيطالي واستجابة كونتي لمطالبه بشأن عدم إصدار أي توصيات تمثل ضغطاً على حفتر أو انتصاراً لخصومه السياسيين. ومن ناحية أخرى يلعب السيسي دور حائط صد لموجات اللجوء من الدول العربية وأفريقيا، وهو ما كان محل تقدير واهتمام من روما التي أبرمت بروتوكولات للتعاون مع القاهرة في هذا الملف، على ضوء اهتمامها الاستثنائي بالأوضاع المنفلتة في ليبيا، وحاجتها للمساعدة العسكرية والاستخباراتية لوقف الهجرة غير الشرعية لأراضيها من شمال أفريقيا. بل إن تعاون البلدين في هذا الملف كان أحد الركائز التي قام عليها التعاون السري بين السيسي وبعض الدوائر اليمينية في البرلمان الإيطالي والمتشددة إزاء التيارات الإسلامية والمهاجرين غير الشرعيين، للضغط على حكومة باولو جينتيلوني لإعادة السفير الإيطالي للقاهرة في أغسطس/آب 2016 رغم استمرار تعثر التحقيقات في قضية ريجيني.
وعلى الجانب الاقتصادي، منح السيسي مزيداً من الأعمال لعملاق الطاقة الإيطالي "إيني"، على ضوء اكتشافات حقول الغاز الجديدة شمال مصر، إذ حصلت الشركة على حق تشغيل وإنتاج الغاز الطبيعي من حقل "ظهر" العملاق، ليضاف لسلسلة مشاريعها في مصر، والتي جعلت منها الشريك الأساسي لمصر في ذلك المجال، ساحبة البساط من شركة "بريتش بتروليوم" البريطانية، خصوصاً على صعيد الحقول المكتشفة حديثاً. وسبق أن قالت مصادر دبلوماسية، لـ"العربي الجديد"، إن صفقة عودة السفير الإيطالي إلى القاهرة، رغم عدم تحقيق تقدم في تحقيقات ريجيني، كانت قائمة في جزء منها على منح تسهيلات ومزايا إضافية للشركة الإيطالية، التي أصبحت تملك أيضاً نصيب الأسد من مصنع إسالة الغاز بدمياط والذي سيتم توجيه الغاز المستورد من إسرائيل له لإعادة بيعه واستهلاكه.