ويبدو أن ما يجري اليوم في الغوطة هو استغلال النظام للاستعصاء السياسي في الأزمة السورية، في ظل الوقت الضائع الذي يسمح له بقضم مزيد من مناطق المعارضة. فالنظام عمل طوال السنوات الأخيرة على تأمين العاصمة وريفها، وإبعاد المعارضة إلى أبعد نقطة ممكنة في البلاد، ليضمن استقراره في العاصمة. وهو يعتمد سياسة الحصار الخانق على الغوطة، فيمنع إدخال مواد غذائية وأدوية، مع استهداف البنية التحتية والخدمات، أي يدمر مقوّمات الحياة في الغوطة بشكل ممنهج، إضافة إلى القصف اليومي على مناطق المدنيين، بهدف قطع التواصل بين مناطقهم، وبينهم وبين الفصائل المعارضة في المناطق الأخرى. كما أن هذه العملية تسهّل تهجير سكان المنطقة باختيارهم في حال استمر الحصار.
وتُعتبر الغوطة آخر معاقل المعارضة المسلحة في محيط دمشق، إذا ما استثنينا جنوب دمشق الذي وقّع هدنة مع النظام سارية منذ سنوات. وتُعتبر الغوطة الشرقية أيضاً الأكثر خطراً على النظام في دمشق، بسبب قرب المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة من قلب العاصمة، خصوصاً حي جوبر، الذي شكّل الرقم الأصعب على النظام والروس، ورفض النظام القبول به كجزء من اتفاق خفض التصعيد، معتبراً أنه جزء من دمشق. واعترف الروس أنفسهم بأنهم سبق أن نصحوا النظام بالتوقّف عن محاولة التقدّم في جوبر بسبب قيام المعارضة بتحصينه بتحصينات هندسية معقدة، فكانت النصيحة هي القيام بالالتفاف حول الحي لقطع خطوط الإمداد وبالتالي حصاره حتى الاستسلام أو السقوط، وقد تجاوب النظام مع نصيحة داعميه، إلا أنه حتى اليوم لم يحقق أي تقدّم يذكر على الرغم من مرور أسابيع على بدء العمليات.
وأشار علوان إلى أنه "في ظل صمود الجبهات، يقوم النظام بالانتقام من المدنيين بالقصف على الأحياء السكنية وارتكاب مزيد من المجازر والانتهاكات الخطيرة جداً، وقد بدأ باستخدام قنابل النابالم الحارقة، بعد أن استخدم أخيراً الغازات السامة والكلور المحرم دولياً"، مضيفاً: "هو لا يكترث لارتكابه أبشع المجازر والانتهاكات، طالما التغطية الروسية حاضرة، والعرقلة الروسية لأي إدانة للنظام جاهزة، والروس ربما يغطون كل هذه الجرائم أملاً منهم في أن يتكرر سيناريو حلب وداريا في الغوطة الشرقية".
وعن الخيارات المتاحة أمام فصائل المعارضة، قال علوان إن "خياراتها الصمود والتصدي بوجه الاعتداء"، موضحاً أنها "منذ وقّعت على اتفاقية أنقرة في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2016، التزمت وقف إطلاق نار فعلياً، إلا أن النظام كان يمعن في العمل العسكري، ومحاولات الاقتحام من جديد وتم التصدي له بشكل كامل، وتكبّد خسائر كبيرة في محاولاته ولم يستطع النيل من صمود الثوار"، مضيفاً: "اليوم سيناريوهات الثورة في الغوطة الشرقية الصمود، من يدفع الكلفة المرتفعة هم المدنيون، إثر تخاذل المجتمع الدولي من جهة الانتهاكات ومساءلة مرتكبيها، وخرق الأعراف الدولية وارتكاب كل هذه المجازر والجرائم".
أما عن السيناريوهات العسكرية المتوقعة، ففي حال قرر النظام اقتحام مناطق الغوطة، من المرجح أن يحاول التقدّم عبر محور عربين بهدف فصل حي جوبر وحصاره والتعامل معه بشكل منفرد، كونه الهدف الاستراتيجي الأهم بالنسبة إلى النظام بسبب ملاصقته لمدينة دمشق وإمكانية استخدامه منطلقاً لهجمات على العاصمة.
ومن الممكن كذلك أن يحاول النظام التقدّم باتجاه حرستا لتأمين أوتوستراد دمشق حمص، وتأمين المنطقة المحيطة بالأوتوستراد من أجل توفير طريق آمن يصل دمشق بمناطق سيطرة النظام في شمال العاصمة من دون أي تهديد من المعارضة. كذلك يُمكن للنظام أن يتّبع السيناريو الذي استخدمه سابقاً بفصل مناطق الغوطة بعضها عن بعض، وذلك من خلال التوغّل في وسط الغوطة لفصل مناطق سيطرة "جيش الإسلام" عن مناطق سيطرة "فيلق الرحمن"، مستفيداً من الخلافات بين الفصيلين وانعدام الثقة بينهما، والعمل على قضم مزيد من الأراضي الزراعية من محور المرج، بهدف حرمان أهل الغوطة من سلتهم الغذائية الداخلية التي كانت أهم عوامل صمودهم لسنوات. وسيكون ذلك استعادة لسيناريوهات نجح في تنفيذها بمناطق أخرى من ريف دمشق مثل داريا ووادي بردى وبيت جن وغيرها، وصلت جميعها في النهاية إلى تهجير أهلها الرافضين العودة إلى الحياة تحت سلطة النظام، وإعادة سيطرته على تلك المناطق.
في غضون ذلك، واصلت قوات النظام قصف مدن وبلدات الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، موقعة قتلى ومصابين بين المدنيين، فضلاً عن تسبب القصف باندلاع حرائق في ممتلكات المدنيين. وأكد ناشطون محليون مقتل وإصابة مدنيين في مدينة دوما، كبرى مدن الغوطة المحاصرة منذ خمس سنوات، فيما أشار "المرصد السوري لحقوق الإنسان" إلى أن قوات النظام قصفت، أمس الاثنين، مناطق في بلدة مسرابا بالغوطة الشرقية، بالتزامن مع استهدافها لمناطق في بلدتي حزرما والنشابية. كما أشار إلى أن اشتباكات عنيفة دارت، مساء أول من أمس، بين قوات النظام والمسلحين الموالين لها من جانب، ومقاتلي "جيش الإسلام" و"حركة أحرار الشام" من جانب آخر، على محاور في البساتين الممتدة بين مدينتي دوما وحرستا.
وكان ناشطون في الغوطة الشرقية أطلقوا، الأحد، حملة إعلامية حملت وسم "#أنقذوا_الغوطة" لتسليط الضوء ضد الجرائم المستمرة بحق آلاف المدنيين المحاصرين في الغوطة الشرقية، على يد النظام السوري وحلفائه، في ظل أعنف حملة قصف تواجهها بلدات الغوطة منذ أكثر من شهر. وجاء في بيان الحملة "خمس سنوات من الحصار ولا يزال نحو 400 ألف مدني يعانون من آثاره أمام مرأى ومسمع العالم كله، ويفتقدون لأبسط حقوق الإنسان بالحصول على حقهم في الحياة وحقهم في الحصول على الغذاء والدواء والتعليم، ولم تحرك طيلة هذه السنوات ضمير الإنسانية كل المناشدات التي تصدر من الغوطة الشرقية بريف دمشق". وأشار إلى أن "التصعيد العسكري لنظام (بشار) الأسد بدعم من روسيا على الغوطة الشرقية، يزهق حياة عشرات المدنيين يومياً، وأغلبهم من النساء والأطفال"، مطالباً "العالم باحترام القوانين التي وضعها وأبسط معايير الإنسانية والسماح للمدنيين بالحصول على أبسط حقوقهم في الحياة والطعام والدواء والتعليم، كما تنص القوانين الدولية على تجنيب المدنيين آثار الحروب، وهو ما لم يحدث أو يطبق في مدن وبلدات الغوطة الشرقية". وكان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، زيد بن رعد الحسين، قال، في بيان السبت الماضي، إن الضربات الجوية لقوات النظام وروسيا على مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة أسفرت عن مقتل 230 مدنياً خلال الأسبوع الماضي.
وقال الناشط أبو عمر خطيب من مدينة عربين، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الطيران الحربي يتعمّد استهداف الأحياء السكنية فقط، وغاراته بعيدة عن جبهات القتال في محيط ثكنة إدارة المركبات. كذلك قالت مصادر محلية إن الجبهات المحيطة بثكنة إدارة المركبات تشهد محاولات تقدّم بشكل متقطع لكنها ليست متزامنة مع عمليات القصف على الغوطة بشكل دوري ولم تسجل أي عملية هجوم حقيقية في الأيام الأربعة الماضية، إذ تشنّ الطائرات الحربية غاراتها على مدار اليوم مستهدفة الأحياء السكنية فقط وهو ما يشير إلى نية إيقاع مجازر. وكان النظام قد تعرض إلى صفعة قوية خلال فترة احتفالاته بما يسميها انتصارات عسكرية، وذلك عبر عملية عسكرية نفذتها المعارضة وحققت عبرها تقدّماً باتجاه دمشق، وأفقدت النظام نقاطاً جديدة بينها إدارة المركبات التي حوصر بداخلها العشرات من مقاتليه، ولا يزال عاجزاً عن استعادتها حتى اللحظة.وبدأت قوات النظام تصعيد القصف الجوي على الغوطة الشرقية بالتزامن مع انطلاق عملية "غصن الزيتون" في عفرين يوم عشرين يناير/ كانون الثاني الماضي، لكن حدّتها ارتفعت في الأسبوع الأخير واشتدت منذ يوم الإثنين الماضي مستهدفة المنازل والمراكز الطبية والأسواق ومراكز الدفاع المدني.
وتجري الحملة العسكرية المدعومة روسياً على الغوطة، في ظل توقيع الروس اتفاق تخفيض التصعيد مع الفصائل المعارضة فيها، الذي تم عبره الاتفاق على نقل عناصر "هيئة تحرير الشام" وعصبها الأساسي "جبهة النصرة" سابقاً إلى إدلب. إلا أن الروس لم يفوا بالتزاماتهم، وتم تعطيل هذا الاتفاق من قبل النظام بحجج مختلفة، كون خروج "هيئة تحرير الشام" من الغوطة يسحب ذريعة النظام وحلفائه بشن العمليات العسكرية عليها وحصارها.