شكّلت المواجهة العسكرية الأولى من نوعها بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، عبر إسقاط الطائرة الإيرانية المسيرة بداية، وما تبعها من قصف إسرائيلي لـ12 موقعاً في سورية، 8 منها تابعة للدفاعات الجوية السورية، و4 ذكرت التقارير الإسرائيلية أنها مواقع إيرانية، نقطة تحوّل في ما يحدث في سورية، نقلت المناوشات الإعلامية بين إيران وإسرائيل إلى مرحلة جديدة. هي مواجهة مباشرة، كان الاحتلال الإسرائيلي يفضّل تأجيلها على الأقل، بعد أن فشلت جهوده الدبلوماسية بتحقيق الهدف الرئيسي المعلن له وهو إخراج إيران من سورية كلياً. لكن المواجهة الأخيرة، يوم السبت الماضي، التي جاء فيها أوّل ردّ سوري على استباحة الأجواء السورية، شكّلت أيضاً نقطة تحول في حاضر ومستقبل "حرية الطيران الحربي الإسرائيلي" في سماء سورية، رغم تكريس التنسيق العسكري بين روسيا وإسرائيل. وفيما ذهب محللون إسرائيليون منذ مطلع الأسبوع (تسفي برئيل في هآرتس مثلاً) إلى القول إن "المواجهة تنذر بتقليص هامش مناورات الطيران الحربي الإسرائيلي في الأجواء السورية"، اعتبر المحلل العسكري في "هآرتس"، عاموس هرئيل، أن ما يدور اليوم هو في الواقع "معركة أو صراع، من طرف إسرائيل للمحافظة على حرية نشاط طيرانها الحربي في العمق السوري وفوق الأجواء السورية".
وبحسب هرئيل، يبدو أن إسرائيل ستصرّ على إبقاء قواعد اللعبة التي سبقت أحداث السبت (العاشر من فبراير/شباط)، وعدم الرضوخ لقواعد جديدة، حتى تضمن حرية القيام بما تشاء في أجواء سورية، كما فعلت لغاية الآن ومنذ اندلاع الثورة السورية. في المقابل تقوم إيران وسورية باستعراض عضلات هدفه نقل رسالة لإسرائيل بأن ما كان لن يستمر، وأن أي استباحة لأجواء سورية ستعني تدفيع إسرائيل ثمناً.
ويقول هرئيل، في هذا السياق، إن الجيش الإسرائيلي والحكومة يصرّان على منع أي تغيير في الاستراتيجية الإسرائيلية، والإبقاء على "الخطوط الحمراء" نفسها، أي منع نقل سلاح كاسر للتوازن لـ"حزب الله" اللبناني، ومنع تكريس الوجود العسكري الإيراني في سورية، وإحباط محاولات إيران، في حال سعت الأخيرة إلى بناء مصانع لإنتاج الصواريخ الدقيقة.
لكن أحداث السبت، ستجبر، بحسب هرئيل، الجيش الإسرائيلي وعلى المدى المباشر والفوري، على دراسة نمط نشاط الطيران الحربي العملياتي، مع توقّع أن يقوم على المدى البعيد ببذل مزيد من الجهود والموارد لتطوير حلول جديدة تضمن بقاء التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي على المنظومات الدفاعية الجوية السورية، لا سيما في حال قرّرت روسيا مستقبلاً تزويد سورية بمنظومات صاروخية مضادة للطائرات أكثر تطوراً من المتوفرة حالياً في سورية.
ويضيف هرئيل أن هذه المعركة "تستوجب إدارة ذكية وموضوعية للأزمات المقبلة، وهو ما يقود أيضاً إلى وجوب الحذر في التعامل مع الإدارة الأميركية". وفي هذا السياق، يلفت هرئيل إلى أن "أحد أسباب وعوامل القوة الإسرائيلية، العسكرية والدولية، نابع من التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، وهو عامل أساسي في حسابات دول المنطقة، وبالتأكيد في حسابات روسيا وإيران". لكنه يرى أنّ المسؤولية "تحتّم على المستوى السياسي الإسرائيلي أن يحاذر في كل ما يتعلق بالولايات المتحدة، خلافاً لما قام به (رئيس وزراء الاحتلال بنيامين) نتنياهو مطلع الأسبوع، بادعائه أنه يبحث مع الأميركيين مسألة فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وهو ما تسبب بغضب أميركي وردّ سريع بتكذيب هذه الادعاءات، الأمر الذي شكّل "ضربة لصورة التحالف الأميركي الإسرائيلي"، مع أنه يمكن الافتراض أنه لن يؤثّر في المواقف الجوهرية الأميركية، إلا أنّ من شأن ذلك أن تكون له ارتدادات في العواصم الدولية لجهة إضعاف وضرب "حالة الردع" المتوفرة بفعل هذا التحالف، بحسب هرئيل.
ويتابع المحلل العسكري أنّ "إيران ودول المنطقة التي تراقب متانة العلاقة بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحكومة نتنياهو، لم تستبعد من احتمالاتها أن تمنح الأولى حكومة الأخير، دعماً لشنّ حرب جديدة، وهي توقعات وحسابات لم تكن واردة إطلاقاً مثلاً في عهد إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما".
وفيما يرى هرئيل أن "المواجهة انتقلت لحالة الصراع على حرية استباحة الأجواء السورية، في وضع يُبدي فيه النظام السوري ثقة أكبر في النفس لجهة محاولة اعتراض الاعتداءات الإسرائيلية في سورية، وربما في لبنان، فقد ذهب المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، إلى تبنّي التقديرات الإسرائيلية التي أعلنت على مدار الأسبوع، وأفادت بأن المؤسسة العسكرية في إسرائيل تعتبر أن المواجهة العسكرية مع إيران هي مسألة وقت لا غير.
مع ذلك، يشير فيشمان إلى أنّ "الردع الإسرائيلي تعرّض للتآكل في السنة ونصف السنة الأخيرة، تمثّلت في قيام النظام السوري بإطلاق صواريخ لمحاولة إسقاط طائرات إسرائيلية أغارت على سورية، على الرغم من التهديدات التي أطلقها وزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، في مارس/آذار من العام الماضي، ومفادها بأنّ أي إطلاق للصواريخ السورية، سيردّ عليه بقصف بطاريات هذه الصواريخ. وبالرغم من أن الصواريخ السورية أطلقت أكثر من مرة بعد ذلك التاريخ، إلا أنّ إسرائيل لم تقم بضرب المنظومات الصاروخية السورية إلا السبت الماضي.
ويرى فيشمان أن أحداث السبت بمثابة "بروفا لما هو قادم، خصوصاً وأن إسرائيل اعتمدت لغاية الآن على حقيقة تفوّقها الجوي، ولم تقم بإزالة الخطر الذي تمثّله البطاريات الصاروخية السورية حتى السبت الماضي، بما يؤكد حدوث تغيير في التفكير الإسرائيلي، خصوصاً في حال قامت روسيا بتعويض سورية عن البطاريات الصاروخية الخمس التي استهدفتها الغارات الإسرائيلية السبت الماضي". مع العلم أن الصواريخ التي أطلقت باتجاه الأراضي المحتلة هذه المرة، كانت من طرازي "SA5" و"sa17" المتطورة نسبياً، علماً بأنّ روسيا أدخلت في السنوات الأخيرة تحديثاً على منظومات التحكّم للصواريخ المضادة للطائرات.
ويقرّ فيشمان في هذا السياق، لا سيما في مسألة إسقاط الطائرة الإسرائيلية من طراز "أف 16" بصاروخ سوري، أنه "على الرغم من أن القصف الإسرائيلي، كان يستلزم عملاً استخباراتياً كبيراً، إلا أنّ صورة إسقاط الطائرة هي التي رسخت في الوعي العربي وهشّمت صورة سلاح الجو الذي لا يقهر".
وخلافاً لحالة النظام السوري، فإن إيران بحسب فيشمان، أمر آخر كلياً، فنظامها يعتبر النشاط الإسرائيلي ضده "جزءاً من التهديدات الأميركية العلنية بإلغاء الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية، وصولاً إلى شنّ هجوم عسكري". ووفقاً للمفهوم الإيراني، فإن "تفعيل الضغط على إسرائيل من شأنه أن يردع الأميركيين عن القيام بأي تحرّك عسكري ضدهم، مع التلميح إلى الخيار الإيراني في لبنان، إذ يتساءل الجميع، بحسب فيشمان: "متى سيقرر الإيرانيون تجنيد حزب الله ودفعه لمواجهة مع إسرائيل مع عشرات آلاف عناصر المليشيات الشيعية التي جلبتها إيران لسورية من العراق وباكستان وأفغانستان؟". ويجيب فيشمان: "لكن أحداً لم يحرّك حتى الآن ساكناً لإنزال إيران ولا إسرائيل من على الشجرة التي اعتلاها الطرفان، بينما المواجهة المقبلة تنتظرنا وراء المنعطف المقبل".