هذا ما خلصت إليه صحيفة "لوموند" الفرنسية، التي كتبت، اليوم الثلاثاء، أن السلطات الليبية تراهن، مع أهالي مدينة تاورغاء المُهجَّرين بعد ثورة 2011، على الاتفاق الذي أبرم مع مدينة مصراتة، في أفق تنفيذ مصالحة وطنية، يكون لها ما بعدها.
وكان يُرجى بالفعل من هذا الاتفاق أن يكون عودةً رمزية، وواجهةً للمصالحة في ليبيا ما بعد الثورة. إلا أنه لا تزال 300 عائلة من أهالي تاورغاء موقوفةً، منذ الأول من فبراير/شباط الحالي، وفي ظروف بالغة القسوة، على مشارف "مدينةٍ شبح"، تسمى تاورغاء، من قبل إحدى مليشيات مصراتة، غرب ليبيا.
وكان من المفروض أن يلتحق أفراد هذه العائلات بمدينتهم، بعد اتفاق مصالحة قصد منه التئام الجروح العميقة لثورة 2011، بعد عمليات القتل التي لجأت إليها، بصفة متبادلة، في هذه المنطقة، القوات الموالية للقذافي المتحدرة من تاورغاء، وكتائب مصراتة المتمردة.
وبعدما انتصر متمردو مصراتة صيف 2011، لجأوا إلى انتقامٍ بالغ العنف ضد تاورغاء، التي أُفرغت من سكانها، والذين كان يبلغ عددهم 40 ألف نسمة، والذين يتحدرون من العبيد الأفارقة، في عملية تطهير إثني حقيقية.
وكان يرجى من هذا الاتفاق أن يطوي، في بداية فبراير/شباط من هذا العام، هذه الصفحة المظلمة، مع عودة العائلات التي تمَّ ترحيلها في كل البلاد، وخاصة في طرابلس وبنغازي وسبها.
وعوضاً عن عودتهم إلى بيوتهم التي غادروها قبل ست سنوات، فهم لا يزالون ينتظرون في مناطق صحراوية تحت خيم أحد المعسكرات المعرّضة لقسوة الشتاء. وقد مات اثنان منهم من شدّة البرد.
كما أن مجموعة أخرى من سكان تاورغاء المُرحَّلين، والقادمين من منطقة أجدابيا، تم إيقافهم غير بعيد عن مدينة سرت، على بعد 225 كيلومتراً من مصراتة.
ولا يخفي دبلوماسي في تونس، في حديث للصحيفة الفرنسية، أنّ ما حدث يعتبر ضربة كبرى موجهة إلى "المصالحة التي كان يُراد لها أن تكون نموذجية".
ويعتبر الخلاف بين تاورغاء ومصراتة من أعقد النزاعات في ليبيا ما بعد الثورة، من حيث الاتهامات بالاغتصاب، وأيضاً الانقسام بين القذّافيين والثوريين، وأيضاً بسبب وجود البُعْد العرقيّ. وكان يؤمل من حلّ هذا النزاع إعطاء إشارةٍ إيجابية في أفق مصالحة على المستوى الوطني.
وقد بعث هذا الاتفاق النهائي في يونيو/حزيران 2017، بين ممثلي الطرفين، كثيراً من الآمال. فقد كان يقضي بعودة قبائل تاورغاء إلى مساكنهم، مع دفع حكومة الوفاق الوطني التي يسيرها فايز السراج، 380 مليون دولار كتعويضات إلى مصراتة، و113 مليون دولار تعويضات لسكان تاورغاء. وقد نجح ممثلو مصراتة في أن يفرضوا في هذا الاتفاق استثناء داعمي النظام السابق من مرتكبي الجرائم من هذه التعويضات، ومن حقّ العودة إلى المدينة.
ولكن الفرح العارم بالاتفاق لم يستمرّ طويلاً. فأمام بطء تنفيذه، قام أعضاء قبائل تاورغاء بتنظيم حركة احتجاجات، في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2017، في طرابلس. وهو ما دفع بالسراج إلى إقرار التسريع بإجراءات العودة. وهكذا أعلن عن الأول من فبراير/شباط كموعد للعودة، فتمّ إنجاز عمليات نزع الألغام وإعادة الكهرباء. إلا أنه حين بدأ وصول المُرحَّلين إلى مقربة من تاورغاء، تمّ إيقاف تقدمهم، من دون مراعاة، من قبل مجموعات مسلحة من مصراتة، التي تذرعت بأسباب عديدة، منها أن التعويضات لم تصل إليها بعدُ.
كما أكدت هذه الجماعات المسلحة، أيضاً، أنه لم يكن مقرراً أن تعود قبائل تاورغاء بهذه الأعداد الكبيرة. وطالب المعترضون على دخول سكان تاورغاء إلى بيوتهم، بالتحقق الدقيق والصارم من هويات المرشحين للعودة، من أجل تجنّب تسلل "عناصر قذافيّة إجرامية" بينهم.
وترى الصحيفة الفرنسية أن هذا التشدد المفاجئ في مواقف سكان مصراتة، هو تعبير عن انقسام عميق في هذه المدينة الساحلية حول هذه القضية، خصوصاً أن الحصار الدامي للمدينة، في 2011، لا يزال حيّاً في الذاكرة.
هذا ما دفع أحد الليبيين المنخرطين في حلّ هذا الملفّ المعقد للقول: "المشكلة توجد داخل مصراتة". إذ إنه يوجد مقابل أنصار هذا الاتفاق من المعتدلين، تيّارٌ يريد "توظيف هذه القضية لإضعاف السرّاج"، باعتراف دبلوماسي متواجد في تونس. وبالتالي، فإنّ التوتر في تاورغاء يندرج، في نظر هذا الدبلوماسي، في سياق "تشنّج متصاعد" بين مصراتة وحكومة طرابلس.
ولا يخفي المصراتيون، من الفاعلين المهيمِنِين على التحالف العسكري "البنيان المرصوص"، الذي خاض سنة 2016 معارك ضد "داعش" في سرت، تذمّرَهم من قلة التعويضات التي تلقوها مقابل "تضحياتهم". وهذا الشعور بالمرارة أضيف إلى تطوُّر ميزان القوى العسكري في الغرب وفي فزان، حيث اضطرت كتائب مصراتة، التي كانت من أكثر الكتائب الثورية اندفاعاً بعد اندلاع الثورة، للتخلي عن أراضٍ من أجل الانكفاء، ابتداءً من 2016، إلى مناطقها الأصلية.
وهذا ما يفسّر الشعور الحالي الذي يشعر به العديد من سكان مصراتة، وهو أنهم مَوضِعُ حصارٍ. وهذا الشعور هو قلقٌ يستثمره "صقور" المدينة من أجل إفشال عودة سكان تاورغاء إلى بيوتهم، باعتبارهم "تهديداً أمنياً" مُحتمَلاً.