سمح إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أواخر الأسبوع الماضي، عن قراره المفاجئ بالانسحاب من سورية، بتسليط الأضواء مجدداً على أنماط التنسيق السعودي الإسرائيلي، وآلية تبادل الأدوار بين الجانبين في مواجهة التحديات الإقليمية.
فقد خرج ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ضد إعلان ترامب، وطالب علناً ببقاء القوات الأميركية في شمال شرق سورية، لمواجهة نفوذ إيران في المنطقة. وفي المقابل، فإن إسرائيل الرسمية، التي التزمت الصمت إزاء القرار، تتجه للتأثير من وراء الكواليس على كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية لإقناعهم بالعمل على ثني ترامب عن توجهه هذا. وكما توقع مدير "معهد يروشليم للدراسات الاستراتيجية"، عيران ليرمان، فإن تل أبيب ستتوجه خصوصاً إلى كبار مسؤولي الإدارة المعروفين برفضهم للانسحاب من سورية، مثل وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، ورئيسة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل، إلى جانب الاستعانة بخدمات حلفائها في الكونغرس.
ويعيد نمط التنسيق السعودي الإسرائيلي، في مواجهة قرار ترامب، إلى الأذهان صورة التنسيق بين الرياض وتل أبيب في مواجهة الاتفاق الذي توصلت إليه الدول الكبرى مع طهران بشأن البرنامج النووي الإيراني. فبخلاف ما عليه الأمور حالياً، فقد اتسمت معارضة إسرائيل للاتفاق بصخب شديد وتحدٍ مباشر لإدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في حين عملت السعودية بصمت من وراء الكواليس ضد الاتفاق. ومن الواضح أن حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، التي تراهن على علاقتها بالإدارة الأميركية الحالية، تبدي حذراً شديداً عند التعبير عن أي موقف يتعارض مع سياسات ترامب، وهو ما يدفعها للعمل بهدوء ضد قرار الانسحاب.
وعلى الرغم من التنسيق بين الرياض وتل أبيب بشأن مواجهة قرار ترامب، إلا أنه لا يوجد ثمة شك في أن مستوى تضرر إسرائيل من القرار أكبر بكثير مما يمكن أن يلحق بالسعودية. ففي إسرائيل يرون أن قرار الانسحاب يتناقض مع الموقف المتشدد الذي يبديه ترامب إزاء إيران والاتفاق النووي معها، وهو ما قد يغري طهران بعدم التعامل بجدية كبيرة مع التهديدات الأميركية بالانسحاب من الاتفاق وفرض المزيد من العقوبات عليها. إلى جانب ذلك، فإن الانسحاب الأميركي يقلص من قدرة تل أبيب على تحقيق خارطة مصالحها الاستراتيجية في سورية. فالانسحاب الأميركي يجعل إسرائيل وحيدة في مواجهة سعي إيران لمراكمة النفوذ في سورية، الأمر الذي ترى فيه تل أبيب مصدر تهديد استراتيجي لها. وبالنسبة لصناع القرار في إسرائيل، فإن الانسحاب الأميركي يمهد الطريق أمام تكريس تواصل إقليمي للنفوذ الإيراني، يبدأ من طهران ويمر بالعراق وسورية وينتهي بالساحل اللبناني.
إلى جانب ذلك، فإنه في حال تم تطبيق قرار ترامب، فإن هذا التطور سيزيد من كلفة تصدي إسرائيل للنفوذ الإيراني في سورية، حيث يمكن أن يدفع تل أبيب للتورط في مواجهة شاملة، ليس فقط في سورية، بل أيضاً مع "حزب الله" في لبنان، وهي المواجهة التي أقر وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، بأن الجبهة الداخلية غير جاهزة لمواجهة تبعاتها. كما أن قدرة إسرائيل على الضغط على روسيا لمراعاة مصالحها في سورية بعد الانسحاب الأميركي ستتراجع، وهو ما يمثل وصفة لتحسين قدرة إيران على تطوير نفوذها هناك. من ناحية ثانية، فإن تل أبيب تخشى من أن يفضي تطبيق إعلان ترامب إلى عدم مراعاة مصالحها في أية تسوية سياسية للصراع في سورية. فليس سراً أن إسرائيل تفضل أن يتم تقسيم سورية، بحيث يتم إسدال الستار على أية فرصة لعودة الدولة السورية لتكون لاعباً قوياً في الصراع والساحة الإقليمية. ناهيك عن أن الإسرائيليين يجاهرون بتحفظهم على أي تحرك يفضي إلى إضعاف أكراد سورية، على اعتبار أنهم، حسب التصور الإسرائيلي، يمكن أن يلعبوا دوراً مهماً في مواجهة تركيا من جهة، والقوى الإسلامية من الجهة الأخرى.
لكن مما لا شك فيه أن أحد أهم بواعث القلق الإسرائيلي من إعلان ترامب يأتي من أن تطبيقه سيفضي إلى تحسين المكانة الإقليمية لتركيا. ويمكن الافتراض أن الانسحاب الأميركي من شمال سورية سيكون نتاج اتفاق مع أنقرة، تلتزم فيه تركيا بمراعاة المصالح الأميركية. وإن كانت إسرائيل معنية بإضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة، فإن مصلحتها تقتضي أيضاً ألا يكون الأمر مقروناً بتعاظم مكانة تركيا لدى الولايات المتحدة، خصوصاً بعد التوتر بين أنقرة وتل أبيب إثر تبادل الاتهامات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على خلفية الانتقادات التي وجهها الأخير للجريمة التي ارتكبتها إسرائيل ضد المشاركين في مسيرات العودة الكبرى داخل قطاع غزة. لكن مستقبل الحراك الإسرائيلي السعودي ضد قرار ترامب، يتوقف على نمط التبرير الذي سيقدمه الرئيس الأميركي لتسويغ الانسحاب من سورية. فقد يبرر ترامب الخطوة بأنها تأتي استعداداً لتوجيه ضربة للقوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها العاملة في سورية، بحيث أن سحباً مسبقاً للقوات الأميركية من المنطقة يقلص من قدرة الإيرانيين على الانتقام. وإن كان هذا هو تبرير ترامب لخطوة الانسحاب، فإن إسرائيل ستنظر بارتياح حذر، على اعتبار أن هذا التطور لا يشطب احتمال اندلاع مواجهة شاملة، على افتراض أن أي هجوم أميركي على القوات الإيرانية والمليشيات في سورية قد يفضي إلى مواجهة مع "حزب الله" في النهاية.