وخلال السنوات الأخيرة، ومع كل محطة تاريخية واحتفائية بذكرى "الربيع الأمازيغي" في الجزائر (20 إبريل/نيسان 1980)، و"الربيع الأمازيغي الأسود" لعام 2001، تطل "الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل" (الماك)، التي يقودها المغني السابق فرحات مهني، وتتخذ من باريس مقراً لها، وشكّلت قبل سنوات حكومة منفى. ونجحت الحركة في 20 إبريل 2017، في جمع الآلاف من مناصريها في مسيرة شعبية في قلب مدينة تيزي وزو عاصمة منطقة القبائل. كانت تلك المسيرة صادمة وبمثابة مؤشر على تمدّد هذه الحركة.
وقبل بضعة أيام، جدّدت "الماك" محاولة تنظيم مسيرة ضخمة في مدن منطقة القبائل، وسعت إلى حشد الطلبة الجامعيين، واتخذت من جامعتي تيزي وزو وبجاية، كبرى مدن المنطقة، مركزاً لإطلاق تحركاتها، والتي قابلتها في الوقت نفسه، مسيرات شعبية احتفائية من قوى سياسية ومدنية، تخلّد الربيع الأمازيغي وتحتفي بالمكاسب المحققة للقضية واللغة الأمازيغية، لكنها تلتزم بوحدة البلاد، وترفض أي تقسيم إثني أو نزعات متطرفة تدفع بالمنطقة إلى مزيد من التصادم.
انطلاق "الماك" وتوسعها
الحديث عن وجود تأثيرات لهذه الحركة الانفصالية، ما زال محدوداً في الجزائر، لكن تقديرات سياسية بدأت منذ فترة تحذّر من عواقب غضّ النظر عن مثل هذه الحركات. وإذا كانت السلطة في الجزائر تبدو مطمئنة إلى ضعف تأثير "الماك" على سكان المنطقة في الوقت الحالي، فإن أطرافاً كثيرة بدأت تدعو إلى ضرورة معالجة هذه القضية من منظور واقعي. ويعتقد الكثير من المتابعين لتطور الحراك الأمازيغي في الجزائر، أن "السياسات الراديكالية القمعية والإقصائية التي مرّت بها الجزائر، تكاد تدفع بمنطقة القبائل إلى حالة من التوترات المستمرة التي يمكن أن تعقّد الوضع السياسي في البلاد". ويرى هؤلاء أنّ "تأخّر النظام في الاعتراف بالهوية واللغة والمطالب الثقافية للحركة الأمازيغية، هو جزء من مسبّبات وجود حركات ذات نزعة متطرفة وانفصالية، تتخذ من البُعد الأمازيغي حجة للخوض في ضرورات انفصال المنطقة بسبب خصوصياتها اللغوية والإثنية"، كحركة "الماك" التي لا تفوّت فرصة سياسية لاستعراض حضورها في منطقة القبائل، في محاولة منها لاستمالة الإعلام وإبراز تمددها في المنطقة.
وتأسست حركة "الماك" عام 2002 على يد فرحات مهني، الذي كان فناناً يؤدي الأغنية الأمازيغية، وعمل في الجزائر لصالح القضية الأمازيغية، وانخرط في صفوف الحركة الثقافية البربرية. اعتُقل بسبب مواقفه السياسية، ثم انخرط في حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" بعد عام 1988. عام 1995 كان فرحات مهني على متن طائرة "ايرباص" الفرنسية التي اختطفتها جماعة إرهابية تتبع تنظيم الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر "الجيا"، لكنه نجا من تلك العملية. وفي سنوات الإرهاب هاجر إلى فرنسا واستقر هناك، وأسس عام 2002 حركة "الماك"، ثم أعلن عن تأسيس حكومة منفى للقبائل، لم تعترف بها أي دولة.
في عام 2012 زار مهني إسرائيل، والتقى مسؤولين في دولة الاحتلال، وأعلن عن موقفه الداعم لإسرائيل، وطالب بدعم من وصفهم بـ"الشرفاء في الكنيست". وأدلى بتصريح جاء فيه "نحن في بيئة معادية، كلا البلدين (يقصد إسرائيل ودولته المزعومة) يشتركان في الطريق نفسها، ولكن إسرائيل موجودة بالفعل وهذا هو الفارق الوحيد". وتعهّد بفتح سفارة إسرائيلية في دولته حين إقامتها، وحاول بعدها الحصول على دعم من المغرب، قبل أن يعلن الأخير رفضه التعامل معه مجدداً بسبب الخوف من انتقال فكرة الانفصال إلى أمازيغ المغرب.
اعتراضات ومخاوف
يعترض أغلب سكان منطقة القبائل على نشاط حركة "الماك"، ويعتبرون أن مطلبها بانفصال منطقة القبائل عن الجزائر هو وهم سياسي تغذيه أطراف دولية. وتعارض الأحزاب السياسية الكبرى التي تمثّل المنطقة، خصوصاً حزب "جبهة القوى الاشتراكية" الذي تأسس عام 1963 وحزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، نشاط الحركة التي تحاول التمركز في جامعات منطقة القبائل، وتعتبر أنها نوع من التطرف الذي اندفعت إليه بسبب تعسف السلطة في الجزائر. كما زادت علاقات حركة "الماك" بإسرائيل من الرفض الشعبي لها.
في المقابل، ومع كل استعراض سياسي وشعبي تنفذه الحركة، تبرز تساؤلات عدة بشأنها، لا تقتصر فقط على الحجم الحقيقي الذي تمثّله في منطقة القبائل، ولكن أيضاً حول تساهل السلطات مع نشاطها ومع المسيرات التي تنظمها في مدن منطقة القبائل. ويبرر البعض هذا التساهل برغبة السلطة في تجنّب تأزيم الوضع وتلافي خلق حالة توتر جديدة، وعدم الوقوع في فخ الاستدراج نحو المواجهة مع هذه الحركة، بما يعطيها فرصة لتدويل موقفها.
وفي هذا الإطار، يقلّل الباحث والناشط السياسي المتابع للحراك الأمازيغي في منطقة القبائل، رابح لونيسي، من إمكانية تمدد الحركة الانفصالية في منطقة القبائل. ويقول، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه لا يعتقد أنّ "الماك" تحظى بشعبية في منطقة القبائل، على الرغم من وجود بعض المناصرين لطروحاتها. ويرى أنّ "هذه الحركة معزولة الآن، فالدولة سحبت منها ورقة المتاجرة بفكرة اضطهاد الثقافة الأمازيغية ومنطقة القبائل"، مشيراً إلى أنه "كانت هناك ظروف وملابسات سمحت ببروز هكذا حركة توصف بالتطرف في مواقفها".
ويلفت لونيسي إلى أن "حركة الماك كانت وليدة ردود فعل لما شعر به البعض من عدم اهتمام بما حدث في منطقة القبائل في 2001، وهو ما دفع بقائد هذه الحركة فرحات مهني نحو نوع من التطرف في طروحاته، إذ انتقل من المطالبة بالأمازيغية إلى المطالبة بحكم ذاتي لمنطقة القبائل، ثم استقلال المنطقة وإعلان حكومة ووضع علم خاص بالحركة لا علاقة له بالعلم الأمازيغي الشهير الذي يُرفع في كل البلاد المغاربية، والذي هو علم ثقافي مغاربي يشير إلى البعد الأمازيغي، على عكس علم حركة الماك الذي هو علم سياسي"، مشيراً إلى أنّ "هذا التطرف سمح بتدخّل قوى إقليمية وعالمية عدة لاستغلال ذلك وتوظيفه".
ويحذّر لونيسي، الذي أصدر أكثر من كتاب حول الصراع السياسي بشأن الأمازيغية، من أن "تراخي الدولة لجهة التفعيل الحقيقي والجدي للهوية الأمازيغية على الصعيد الميداني، قد يبرّر وجود حركات متطرفة"، محذراً من العودة إلى الاستغلال السياسي للقضية الأمازيغية سواء من أجنحة في السلطة أو من أطراف في المعارضة، مشدداً على "أهمية قوة الأحزاب الوطنية الموجودة في المنطقة، كجبهة القوى الاشتراكية، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، التي هي أحزاب وطنية تدافع عن الوحدة الوطنية بكل قوة، وبإمكانها مواجهة حركة الماك في المنطقة، لكن ضعفها يمكن أن يترك الساحة فارغة لهذه الحركة الانفصالية".
تعاطي السلطة
وإذا كان الباحث لونيسي يقر بوجود حالة من عدم الثقة في القرارات السياسية التي اتخذتها الدولة بشأن الأمازيغية، ويدعو إلى تشجيع جناح في السلطة يعمل على إقناع الجزائريين بالبعد الأمازيغي وتشكيل جدار وطني أمام خطر يهدد الجزائر ووحدتها وأمنها الاستراتيجي، فإن الناشط السياسي والسكرتير السابق لـ"جبهة القوى الاشتراكية" التي تتبنّى المطلب الأمازيغي منذ عام 1963، كريم طابو، يطرح تقديراً مغايراً، ويعتبر أن "تعسف السلطة والمنطق الإقصائي الذي تدير به منذ عقود مجمل أزمات البلاد بما فيها القضية الأمازيغية، والنظرة الأحادية التي تعالج بها المشاكل، هي التي أتاحت الفرصة لظهور بعض المطالب والحركات، كحركة الماك".
ويشير طابو إلى أن "غياب الحوار الحقيقي ورفض السلطة الانفتاح ولجوءها إلى حلول سياسية كالاعتراف دستورياً باللغة الأمازيغية، لن ينهي المشكلة"، مقارناً بين الحلول التي لجأ إليها النظام المغربي، وتلك التي اعتمدها النظام الجزائري بشأن القضية الأمازيغية، معتبراً أن "النظامين اللذين يواجهان حركة أمازيغية نشطة، اتخذا حل دسترة اللغة الأمازيغية بالمفردات نفسها، وهذه طريقة لا تعبّر بصدق عن قناعة سياسية وجدية في تكريس البعد المجتمعي والثقافي والهوياتي"، لافتاً إلى أن "المجال الوحيد الذي يمكن أن يحد من النزعات المتطرفة هو الحرية وبناء منظومة ديمقراطية تسمح للجميع بالتعبير الحر". وبالنسبة لطابو كما لكثير من المتابعين، فطالما لا توجد حريات وديمقراطية في البلد وانفتاح جدي، يبقى الأمر بالنسبة للقضية الأمازيغية مجرد تسوية سياسية لا تصمد أمام أزمات لاحقة، لافتاً إلى أن الهدوء الذي تشهده منطقة القبائل، والزخم الإعلامي الذي تسوّق من خلاله السلطة لإنجازات ومكاسب القضية الأمازيغية، لا يعني إنهاء تاريخياً للمأزق، بدليل أن المنطقة عرفت على فترات هذا النوع من الهدوء، لكنها كانت تعود إلى حالة توتر مع كل أزمة.
توترات مستمرة
ومنذ عام 1963 شهدت منطقة القبائل ذات الغالبية من السكان الأمازيغ، محطات من التوتر، منذ أول تمرد مسلح تزعمه القيادي في ثورة التحرير الجزائرية حسين آيت أحمد، عندما رفض التوجّه السياسي الذي تبنّته السلطة الجديدة في الجزائر مباشرة بعد الاستقلال، وصولاً إلى مناوشات فكرية وسياسية في سنوات السبعينيات انتهت بانفجار شعبي سمي الربيع الأمازيغي في 20 إبريل/نيسان 1980، وما تلاه من بدايات انفتاح تدريجي وصل إلى ذروته بإقرار دستور يسمح للمرة الأولى بالحق في التعددية السياسية والنقابية وحرية الاعلام والصحافة، بعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988. وتلا ذلك "إضراب المحفظة" في منطقة القبائل للمطالبة بتدريس اللغة الأمازيغية، وهو مطلب استجابت له السلطة حينها بسبب هشاشة موقفها الداخلي والخارجي في ظل موجة العنف السياسي الذي كانت تعيشه الجزائر. وتجددت التوترات بين السلطة ومنطقة القبائل في السنوات اللاحقة، وصولاً إلى الربيع الأمازيغي الأسود في إبريل 2001، والذي قُتل خلاله 153 شخصاً، ما دفع بالآلاف من الأمازيغ إلى تنظيم المسيرة الشهيرة يومها مشياً على الأقدام من مدن وبلدات منطقة القبائل إلى العاصمة. وأجبرت هذه التطورات الحكومة على الدخول في مفاوضات مع "تنسيقية العروش"، وهي تمثيلية شعبية للمنطقة، انتهت بقرار الحكومة سحب قوات الدرك من كامل منطقة القبائل، وبإقرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تعديلاً دستورياً في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، يقضي بالاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية.
ولم تتوقف مطالب الحركة الأمازيغية عند هذا الحد، مثلما لم تتوقف التوترات بين ناشطي الحركة الأمازيغية والسلطة، واستمرت حتى الحصول على مكسبين سياسيين هامين، يتعلق الأول بالاعتراف الدستوري باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية، وإقرار رأس السنة الأمازيغية الموافق لـ12 يناير/كانون الثاني كعيد رسمي يحتفل به في الجزائر.
ويقر المناضل الأمازيغي محمد أرزقي فراد، بأن الموقف المتشدد للسلطة في العقود السابقة، لم يتح له الحلم بإعلان إقرار رسمي ودستوري باللغة الأمازيغية. ويقول "الحقيقة لم أكن أحلم يوماً بأن أعيش إلى لحظة إعلان اللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية في الدستور وإعلان عيد رأس السنة الأمازيغية، عيداً وطنياً في الجزائر"، مشيراً إلى أن ذلك هو نتاج "تراكم أجيال عديدة من أجل رد الاعتبار للغة الأمازيغية، وبعدما قررت الدولة بشجاعة تصحيح الخطأ الإقصائي المرتكب من قِبلها منذ مطلع استقلال البلاد، عبر الاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية عام 2002 ثم كلغة وطنية رسمية عام 2016". ويشدد فراد على أن "الاعتراف الدستوري باللغة الأمازيغية مكسب كبير، لكنه لا يكفي لإنجاح المصالحة مع ذاتنا الثقافية، فلا بد من مرافقة هذا القرار السياسي بنقاش واسع وحوار عميق بين الجزائريين، من أجل إذابة التشنج المتراكم عبر سنوات الإقصاء، بين أنصار الأمازيغية والمتحفظين عليها".