انسحاب ترامب من الاتفاق النووي: مواجهة أميركية ــ أوروبية

10 مايو 2018
بولتون يمهل الشركات الأوروبية 6 أشهر قبل التعرض للعقوبات(Getty)
+ الخط -
مثلما كان توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول مجلس الأمن الدولي زائد ألمانيا  في 14 يوليو/ تموز 2015، حدثاً تاريخياً تم تكريسه في قرار عن مجلس الأمن الدولي رقم 2231، فإن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الثامن من مايو/ أيار 2018، خروج الولايات المتحدة منه من طرف واحد، كان بدوره حدثاً تاريخياً. حدث تتجاوز أهميته العنوانين المباشرين للاتفاق المسمى رسمياً "خطة العمل الشاملة المشتركة"، أي ضمان عدم تحول إيران إلى دولة نووية عسكرياً، في مقابل رفع العقوبات التجارية والمالية عنها. فانسحاب أميركا من الاتفاق، يعيد التعاطي الأميركي رسمياً مع إيران على أنها دولة مارقة أو عدوة، بالتالي يعيد أصوات طبول حرب ممكنة مع إيران، على أراضيها أو في ساحات غير مباشرة مثل سورية ولبنان، من خلال إسرائيل وبقية حلفاء المحور، من السعودية إلى الإمارات. كما أن ضرب المصالح الأوروبية التجارية بفعل الانسحاب الأميركي من الاتفاق، يطرح صعوبات تقنية هائلة أمام قابلية استمرار تنفيذ الصفقات الأوروبية ــ الصينية ــ الروسية ــ التركية مع إيران، ذلك أنّ استمرار تعامل العالم تجارياً ومالياً مع إيران ومع الولايات المتحدة في آن واحد، ليس مضموناً من دون عقوبات أميركية ربما تفرض على من يواصل الصفقات مع إيران، كمؤسسات وأفراد ودول. من هنا، تبدو المرحلة المقبلة بعنوان مواجهة أميركية ــ أوروبية سياسية واقتصادية على خلفية القرار الأميركي. 

ويبدو أن الأزمة الأميركية ستكون في الفترة المقبلة مع أوروبا خصوصاً، بعدما هدد مستشار الأمن القومي لترامب، جون بولتون، الشركات الأوروبية التي لديها مصالح في إيران بإنهاء استثماراتها الإيرانية في غضون ستة أشهر "أو مواجهة عقوبات أميركية"، وهو ما استدعى ردوداً أوروبية تمسكت بالإبقاء على العلاقة مع إيران على ما هي عليه اليوم، مع تحذير أوروبي، بريطاني ــ فرنسي حتى الآن، لأميركا من مغبة محاولة "إعاقة الآخرين عن تطبيق الاتفاق النووي مع إيران"، بحسب مصطلحات وزير الخارجية بوريس جونسون. ولما كان هذا التلميح البريطاني غير كافٍ، خرجت فرنسا بالكلام الأوضح، إذ حذر المتحدث باسم الحكومة بنجامين غريفو، أميركا من الإضرار بالمصالح التجارية الأوروبية مع إيران، لأن "الاتحاد الأوروبي مستعد للطعن أمام منظمة التجارة العالمية على أي إجراءات أحادية تضر بمصالح الشركات الأوروبية والرد على نحو ملائم وفقاً، بالطبع، لقواعد تلك المنظمة الدولية". كذلك ردت فرنسا على التهديد الأميركي على لسان وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، بقوله إن الولايات المتحدة "يجب ألا تعتبر نفسها الشرطي الاقتصادي للعالم".

من هنا، فإن صعوبة مواصلة تنفيذ الاتفاق مع إيران بلا أميركا من قبل الدول الأوروبية، يطرح قلقاً عالمياً جدياً في حال نفذت طهران تهديدها بالعودة إلى السعي لتخصيب اليورانيوم إلى أعلى من نسبة الـ3.5 في المائة المسموحة بموجب الاتفاق، وهو ما يعني إطلاق سباق تسلح نووي عسكري بشكل علني في بقعة جديدة شديدة الحساسية في العالم. أما إن تمسك الأوروبيون فعلاً بمواصلة الالتزام بما نص عليه اتفاق فيينا الشهير، فإن هذا يطرح احتمال مواجهة سياسية اقتصادية مع الحليف الأميركي الذي يبدو مصراً على محاصرة إيران، وهو ما يصعب تحقيقه من دون بقية الشركاء التجاريين الكبار لإيران، أي دول الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا وتركيا. لذلك تسارعت طيلة الساعات التي سبقت وتلت صدور قرار ترامب القاضي بالانسحاب الفوري من الاتفاق النووي، المواقف والنداءات العالمية، ما خلا من أميركا وإسرائيل والسعودية طبعاً، حول ضرورة التوصل إلى صيغة تبقي على كل شيء على حاله، أكان أمنياً في الشرق الأوسط، لناحية عدم السماح بتوسيع المواجهة الإسرائيلية الإيرانية، في ساحات سورية ولبنان أو على الأراضي الإيرانية وتلك المحتلة، وسط استنفار عسكري كبير في الجولان المحتل، أو في إطار الالتزام بالمصالح التجارية الناتجة عن الاتفاق النووي. وهنا، سيكون على الأوروبيين أن يقرروا، يوم الاثنين المقبل في بروكسل على صعيد وزراء الخارجية، ثم يوم الأربعاء المقبل في بلغاريا على مستوى قادة دول الاتحاد، ما إذا كانوا مستعدين لمواصلة المعادلة السارية مع إيران (تجميد المشروع النووي علناً) في مقابل إنقاذ الأعمال والصفقات التجارية التي تبلغ قيمتها 20 مليار دولار بين دول الاتحاد الأوروبي وإيران، في مقابل 800 مليار دولار كميزان تبادل تجاري بين دول الاتحاد الأوروبي وأميركا، أو أنهم سينجرون إلى رغبة فرنسا وألمانيا خصوصاً بإدخال تعديلات على الاتفاق النووي تتعلق بالحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وتقييد القدرات الصاروخية البالستية الإيرانية. وأي تعديل من هذا النوع مرفوض بالمطلق من إيران، التي لا تبدو على قلب رجل واحد في التعبير عن الموقف الرسمي، رغم أن كلام صاحب السلطة الأكبر في الجمهورية الإسلامية، أمس الأربعاء، أي المرشد علي خامنئي، بدا وكأنه حسم النقاش والموقف الإيرانيين، لتكون المعادلة الجديدة تنص على ما يلي بالنسبة لطهران: لا تعديل على بنود اتفاق 14 يوليو 2015، شرط نيل طهران ضمانات أوروبية بعدم اللحاق يوماً بالقرار الأميركي، وبعدم التأثر نهائياً بالقرار الأميركي تجارياً ومالياً ونفطياً نتيجة خوف ما من احتمال أن تطاول العقوبات الأميركية مؤسسات أوروبية بتهمة مواصلة التعامل مع إيران، وهي معادلة قابلتها عواصم القرار الأوروبي، من باريس إلى برلين فلندن خصوصاً، بكلام يفيد بأن أوروبا ستواصل الالتزام بالاتفاق النووي طالما التزمت به إيران، رغم إصرار خامنئي على القول إن إيران لا تثق بالدول الأوروبية الثلاث التي وقعت الاتفاق التاريخي.

وقال خامنئي خلال خطاب بثه التلفزيون الإيراني، ويبدو أنه موجه إلى المدافعين عن الاتفاق ومن بينهم الرئيس حسن روحاني: "يُقال إنّنا سنواصل مع ثلاثة بلدان أوروبيّة (فرنسا وألمانيا وبريطانيا). لستُ واثقاً بهذه البلدان الثلاثة أيضاً". وأضاف "إذا أردتم عقد اتفاق، فلنحصل على ضمانات عمليّة، وإلا فإن هؤلاء سيقومون جميعاً بما فعلته أميركا. إذا لم تتمكّنوا من أخذ ضمانات حتميّة - وأنا أشك فعلياً في أنكم ستتمكنون من ذلك - فلن يكون بمقدورنا مواصلة السير ضمن الاتفاق النووي". كلام مشابه صدر عن قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، بقوله إن "الأوروبيين مرتبطون بالولايات المتحدة ولا يمكنهم اتخاذ قرار مستقل".


لكن المستوى السياسي الدبلوماسي في إيران، ممثلاً بوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، قد يبلغ نظراءه الأوروبيين، خلال لقائهم المرتقب في بروكسل يوم الاثنين المقبل، ما مفاده أن إيران لن تنسحب من منظمة حظر انتشار الأسلحة النووية، ولن تستأنف (علناً) تخصيب اليورانيوم في حال التزامت أوروبا بكل الصفقات المعقودة مع إيران تصديراً واستيراداً ونفطياً ومالياً. ولا قلق إيرانياً من الجوانب التركية والروسية والصينية، لأن هذه الأطراف معروف بأنها لم تلتزم يوماً، قبل الاتفاق النووي، بأي عقوبات مفروضة على إيران، فكيف بالحري اليوم حين تكون أنقرة وموسكو وبكين في عزّ إشكال سياسي اقتصادي مع واشنطن؟

ولم يقدم ترامب بديلاً للاتفاق النووي عندما أعلن، مساء الثلاثاء، خروج أميركا فوراً منه، بل استعجل الشركات الأميركية لإنهاء عقودها مع إيران في غضون 90 إلى 180 يوماً فقط، مع أن في الاتفاق المذكور بنوداً لا تسمح لأي طرف بالخروج من المعاهدة قبل 45 يوماً من موعد صدور قرار الانسحاب. فبموجب الاتفاقية التي تم التفاوض حولها طيلة 12 عاماً، يمكن للطرف الذي يرى أن طرفاً آخر لم يعد يفي بالتزاماته، أن يحرك آلية لتسوية المنازعات خلال 45 يوماً. وينبغي لهذه الهيئة، التي يمكن أن تجتمع على المستوى الوزاري، أن تعطي رأيها. وقد لمّح وزير الخارجية الإيراني بالفعل إلى أن هذا الخيار يمكن تفعيله من قبل طهران.
وأعرب الاتحاد الأوروبي، في بيان، أمس، عن أسفه العميق لإعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وأعرب عن تصميمه على العمل مع المجتمع الدولي للحفاظ عليه طالما التزمت به إيران، وهو كلام مشابه للموقف الإيراني الرسمي الذي أعلنه الرئيس روحاني مساء الثلاثاء، بعد دقائق من إعلان ترامب قراره. وأبلغ ماكرون روحاني، في اتصال هاتفي، أن فرنسا تريد الحفاظ على الاتفاق النووي، وذكّره "بالتعهد بنقاش أوسع حول إطار عمل بشأن الأنشطة النووية بعد 2025 وبرامج الصواريخ الباليستية والأزمات الإقليمية"، بحسب بيان صادر عن الرئاسة الفرنسية. وفي الإطار نفسه، قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان إن "الاتفاق لم يمت"، وطمأن مستشار للرئيس الفرنسي إلى أن بلاده والاتحاد الأوروبي سيعملان مع إدارة ترامب لضمان حماية المصالح التجارية الأوروبية في إيران. وأمام الموقف الأوروبي الموحد، قال وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس إن "الولايات المتحدة ستواصل العمل مع حلفائها لضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي، والتصدي لنفوذ إيران الخبيث".

كذلك، تعهدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بقيام برلين وباريس ولندن "بكل ما يلزم" لضمان بقاء إيران في الاتفاق النووي. وأقرت ميركل بوجود قلق ناجم عن برنامج إيران للصواريخ البالستية ونفوذها في سورية والعراق، لكنها اعتبرت أن "هذه أمور تتجاوز الاتفاق (النووي) وعلينا الحديث عنها". وفي حين قالت المستشارة الألمانية إنه "ينبغي عدم التشكيك في الاتفاق النووي مع إيران"، غير أنها عادت لتشير إلى أنه "لا بد من إجراء محادثات بشأن اتفاق أشمل يتجاوز نطاق الاتفاق الأصلي". كذلك جزمت وزارة الخارجية البريطانية بأن لندن "ليست لديها النية للانسحاب" من الاتفاق النووي الإيراني الذي "يعمل على الحد من طموحات إيران النووية"، بحسب مصطلحات الوزير بوريس جونسون. وفي السياق، كرر المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو، موقف وكالته من أنه "حتى اليوم، يمكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تؤكد أن إيران تنفذ التزاماتها النووية".


أما المواقف الروسية الصينية التركية، فجاءت كما كان متوقعاً، منددة بقرار ترامب، ومتمسكة بالكامل برفع العقوبات عن إيران والإبقاء على الاتفاق النووي. وأعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن قلقه البالغ حيال اعلان ترامب، بينما اعتبر نظيره التركي رجب طيب أردوغان، أن "أميركا هي الخاسرة بعد انسحابها من الاتفاق"، في حين تمسكت الصين بحماية المعاهدة الدولية.

وبالعودة إلى الموقف الإيراني المتفاوت بحسب هوية السلطة التي تعبر عنه، فإن دبلوماسياً غربياً يعمل في طهران اعتبر، في حديث لوكالة "فرانس برس"، أن الإيرانيين "بحاجة إلى إيجاد رد يبقي الأوروبيين في صفهم، لكن أيضاً يظهر أنه لا يمكن إساءة معاملتهم". بناءً على هذه المعادلة، سيصوت البرلمان الإيراني على مشروع قرار يدعو الحكومة إلى رد "متناسب ومتبادل" بعد قرار أميركا الانسحاب من الاتفاق، وحصر مهلة التفاوض مع الأطراف الأوروبية بشهر واحد فقط. وبينما كان الريال الإيراني يهوي إلى مستوى قياسي جديد، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية عن وزير الدفاع أمير حاتمي قوله إنه "لا يمكن لأي قوة خارجية تهديد إيران عسكرياً". وقال روحاني "علينا أن ننتظر لنرى ما الذي ستفعله الدول الخمس الكبرى. لقد أصدرت تعليماتي إلى وزارة الخارجية لإجراء مفاوضات خلال الأسابيع القليلة المقبلة مع الدول الأوروبية والدولتين العظميين الأخريين أي الصين وروسيا". وأضاف: "إذا وجدنا في نهاية هذه المهلة القصيرة أنه عبر التعاون مع هذه الدول الخمس يمكن ضمان مصالح الشعب الإيراني على الرغم من الولايات المتحدة والنظام الصهيوني (...)، عندها سيبقى الاتفاق النووي سارياً وسيكون بمقدورنا العمل في سبيل السلام والأمن في المنطقة والعالم".

وعكست الصحافة الإيرانية، الصادرة أمس، الانقسام الإيراني في التعاطي مع قرار ترامب، بين متحمسين إصلاحيين للإبقاء على الاتفاق الدولي، وصقور محافظين لم يرتضوا يوماً بمشاركة بلدهم في هذه المعاهدة الدولية. وركزت الصحف الإصلاحية، والتي تعبر عن موقف الحكومة، على استمرار الاتحاد الأوروبي في تنفيذ الاتفاق على عكس الصحف المحافظة.

عربياً، انقسم زعماء الدول بين متحمسين للغاية لقرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، وهم حكام السعودية والإمارات والبحرين، وبين رافض للقرار الأميركي بالمطلق، مثل العراق والنظام السوري، مروراً بصامتين مثل لبنان الرسمي، وداعين إلى انخراط عربي في أي مفاوضات لاتفاق نووي جديد، مثلما قالت وزارة الخارجية المصرية، بينما اكتفى الأردن بالدعوة إلى "التعاون" لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل. أما موقف دولة قطر، فجاء على صيغة أن "الأولوية الأساسية هي إخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي وتجنيب دخول القوى الإقليمية في سباق تسلح نووي لا تحمد عقباه"، بحسب بيان لوزارة الخارجية.