بعد أيام من الإعلان عن توصّل تركيا والولايات المتحدة إلى "خارطة طريق" لتحديد مستقبل مدينة منبج السورية في ريف حلب الشرقي، عبر انسحاب "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) من المدينة وتسليمها إلى إدارة محلية، إلا أن طريقة تنفيذ هذا الاتفاق على الأرض، ما زالت غير واضحة، بينما الواضح أن تنفيذ الاتفاق، وإمكانية شموله مدناً أخرى تسيطر عليها المليشيات الكردية، مرتبطٌ إلى حد بعيد بتواصل وتأكيد التفاهمات الأميركية - التركية التي تشمل سلة أوسع من القضايا الخلافية بين الطرفين تتصل بالكثير من شؤون المنطقة، مثل علاقة تركيا مع روسيا، وصولاً إلى العلاقات الثنائية التي شابها التوتر على خلفية توفير الولايات المتحدة ملاذاً آمناً للمعارض التركي فتح الله غولن، والذي تتهمه أنقرة بتدبير المحاولة الانقلابية الأخيرة في البلاد.
وفيما أعلنت قيادة "قسد" سحب من سمَّتهم بمستشاريها العسكريين من مدينة منبج التي يسيطر عليها رسمياً "مجلس منبج العسكري" الخاضع لهيمنة "قسد"، قالت مصادر متطابقة إن "قسد لم تقم بأي انسحاب فعلي من المدينة، وإنما حاولت الإيحاء بذلك فقط".
ورأى القيادي في الجيش السوري الحر في الشمال السوري النقيب سعد أبو الحزم، أن "إعلان الوحدات الكردية انسحابها من مدينة منبج اعلامي فقط". وأضاف في تصريح لـ "العربي الجديد" أنه "تم الاتفاق على إدارة مدنية لمنبج، لكن تفاصيل الجانب العسكري لم تتضح بعد". وأكد أن "الوحدات الكردية لم تسحب عناصرها ومدربيها العسكريين بعد من المدينة"، واصفاً الانسحاب بأنه "إعلامي حتى الآن". وأعرب عن اعتقاده بأن "الوحدات الكردية ستنسحب في النهاية من المدينة ذات الغالبية العربية والتي تعد من كبرى مدن الشمال السوري".
وكان وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أعلن يوم الثلاثاء الماضي، عن "التوافق على "خارطة طريق مع الولايات المتحدة من ثلاث مراحل، تتضمن مرحلة تحضيرية تمتد 10 أيام، وبعدها ينسحب مقاتلو الوحدات الكردية من المدينة التي ستديرها تركيا والولايات المتحدة أمنياً لمدة أقصاها 6 أشهر، على أن يشكل تطبيق الاتفاق نموذجاً لتطبيقه في مدن أخرى كالرقة وعين العرب".
كما أفاد مصدر مطلع من داخل مدينة منبج لـ"العربي الجديد" أن "انسحاب الوحدات الكردية من المدينة ما زال كلاماً فقط"، مؤكداً أن "مقاتليها ما زالوا منتشرين في الطرقات وإن كانوا أزالوا أعلامهم والإشارات الخاصة بوحدات الحماية عن اللباس العسكري والسيارات والمقرات، ووضعوا مكانها شعارات مجلس منبج العسكري". واعتبر أن "البيان الصادر عن المجلس العسكري في منبج والذي يشكر الوحدات الكردية على دورها بعد انسحابها من المدينة يدخل في إطار التمويه الإعلامي".
وكشف المصدر أن "مقاتلي الجيش الحر من أبناء منبج سيدخلون المدينة لكن ليس ضمن الفصائل التي ينتمون إليها الآن، بل بشكل فردي على أن ينخرطوا جميعاً في تشكيل جديد يكون تحت سلطة المجلس المحلي، الذي سيكون مكان ما يسمى بمجلس منبج العسكري الحالي الذي تهيمن عليه المليشيات الكردية". واستبعد ما يشاع عن أن "المدعو نجم البكار سوف يتولى إدارة المجلس الجديد"، مؤكداً "وجود شخص آخر رفض الكشف عن هويته".
وحول موقف أهالي المدينة من هذه التطورات، أكد المصدر "وجود ارتياح كبير لدى السكان المحليين خصوصاً العنصر العربي الغالب في المدينة، والذين عانوا كثيراً خلال الفترة الماضية من تسلط المليشيات الكردية"، مشيراً إلى "وجود حالة من الترقب لدى الأهالي وسط ترحيب بدخول تركيا وتخوّف في الوقت نفسه من عدم انضباط فصائل الجيش الحر في حال دخلت المدينة كما حصل في بعض مناطق درع الفرات".
واستبعد المصدر "دخول أي فصيل إسلامي أو تابع للجيش الحر إلى المدينة وذلك بعد ما قيل عن توافق على اختيار جيش الإسلام أو لواء المعتصم من أجل دخول المدينة"، مشيراً إلى أن "معالم الاتفاق غير واضحة بالنسبة لسكان منبج حتى الآن".
من جهته، اعتبر المتحدث باسم "مجلس منبج العسكري" التابع لقوات "سورية الديمقراطية" شرفان درويش، أن "المجلس لن يقبل بأي انتشار للجيش التركي في المدينة". وأضاف في تصريحات صحافية أن "المجلس لم يبلّغ رسمياً بعد بآليات خريطة الطريق التركية الأميركية بشأن منبج"، لافتاً إلى أن "المجلس قادر على حفظ أمن منبج وحدودها ضد أي تهديدات خارجية". وقال درويش إن "المجلس بانتظار زيارات لمسؤولين رفيعي المستوى في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لتبلغ تفاصيل الاتفاق وآخر المداولات المتعلقة بآليات تنفيذه".
وفي سياق متصل أيضاً، أكد رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، أن "بلاده تمكنت من القضاء على الإرهاب على حدودها مع سورية، انطلاقاً من غربي نهر الفرات حتى البحر المتوسط". وقال يلدريم في كلمة له أمام أنصار حزبه "العدالة والتنمية" (الحاكم)، في ولاية أغري شرقي البلاد، أنه "قضينا على الإرهاب بالكامل على طول حدود بلادنا، انطلاقاً من غربي نهر الفرات حتى البحر المتوسط عبر عمليتي غصن الزيتون ودرع الفرات والاتفاقية الحالية مع الولايات المتحدة حيال منبج".
ويأتي الاتفاق تنفيذاً لتعهّدات أميركية سابقة منذ عهد إدارة الرئيس باراك أوباما بسحب القوات الكردية من مدينة منبج وكل غرب الفرات، وهو وعد ظلت واشنطن تماطل في تنفيذه خلال الأشهر الـ18 الماضية في ظل تدهور علاقاتها مع أنقرة، وفي ظل حاجتها لخدمات "الوحدات الكردية" في محاربة تنظيم "داعش"، ومدّ النفوذ الأميركي في الشرق السوري.
وبدأت خطوات التقارب الحالي بين الجانبين الأميركي والتركي في عهد وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون، حين اجتمع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتعهد مبدئياً بالتوصل إلى حل للقضايا العالقة بينهما. ومنذ ذلك الوقت، عمل المسؤولون الأتراك والأميركيون على خارطة طريق لإخراج "الوحدات الكردية" من منطقة منبج ذات الغالبية العربية.
ويرى مراقبون أن "الاتفاق بشأن منبج ما زال هشاً، ذلك أن بذور الخلافات بين الجانبين الأميركي والتركي ما زالت قائمة، وتتصل بسلة طويلة من الخلافات بدءاً من مطالبة أنقرة من واشنطن تسليم العقل المدبّر للمحاولة الانقلابية عام 2016 فتح الله غولن، مروراً بشراء تركيا لأنظمة الدفاع الجوي الروسية إس-400، وتعزيز علاقاتها مع روسيا بشكل مزعج للولايات المتحدة، وصولاً إلى خطابات أردوغان التي تتسم بنبرة معادية للولايات المتحدة في الملفات كافة".
غير أن تصميم حلف روسيا – إيران - الأسد على تحقيق أهدافة كاملة من ناحية استعادة السيطرة على كل أنحاء البلاد عن طريق الاستفراد بمناطق المعارضة الواحدة تلو الأخرى، قد يدفع الحليفين "القديمين" واشنطن وأنقرة، إلى إيلاء اهتمام أكبر لتنمية التعاون بينهما من أجل الضغط على الحلف الآخر وإلزامه بالتوجه إلى حل سلمي يقوم على مبادئ جنيف ومقتضيات الحل كما حددتها الأمم المتحدة.
ومن هنا، ثمة رهان لا يمكن تحديد نسبة نجاحه حتى الآن، على تحويل التعاون التكتيكي – المرحلي بين أنقرة وواشنطن بشأن منبج إلى تعاون استراتيجي بشأن سبل حل القضية السورية بما لا يجعل حلف روسيا وإيران والنظام هو المنتصر، والذي اضطرت تركيا إلى التعاون معه تكتيكياً خلال المرحلة السابقة بسبب الانكفاء والسلبية الأميركية، فضلاً عن التناحر العربي، وهو ما ترك تركيا وحيدة في الميدان.
ومن جهتها أيضاً، فإن "قوات سورية الديمقراطية" ما زالت تسعى إلى إمساك العصا من المنتصف وإقامة توازن دقيق بين علاقاتها مع واشنطن التي تخشى أن تبيعها في الشرق كما فعلت في عفرين، ومع موسكو حليفة نظام بشار الأسد، والتي يعني التعاون معها حكماً تقديم تنازلات للأسد، وهو كما يبدو ما سعت إليه في الآونة الأخيرة، مع إبداء استعدادها لفتح حوار مع النظام السوري في استجابة ما لدعوة رئيس النظام للوحدات الكردية للتفاوض على مستقبل المناطق التي تسيطر عليها أو مواجهة الحرب.