يواظب العشريني فهد الويسي على المشاركة في التظاهرات بالقرب من الدوار الرابع في عمّان الأردنية، والذي بدأ يأخذ رمزية ثورية لدى المعتصمين. بعد الإفطار، يحضر يومياً من الزرقاء (25 كيلومتراً شمال شرقي العاصمة عمّان)، ليشارك الجموع في هذا الاحتجاج السلمي. يقول فهد: "نعم أجد نفسي في هذا المكان، لم أتخيّل أن نصل في يوم إلى هذه المرحلة وهذا الوعي". يضيف هذا الشاب المتقد كشعلة من الحماس "أوقفنا قرار رفع المحروقات، روّحنا الحكومة، ووقّفنا مشروع قانون ضريبة الدخل". يتحدث وقد بدت عليه علامات النشوة بالانتصار وكأنه أطبق بيديه على الدنيا.
على جنبات الطريق المؤدي إلى الدوار الرابع وفي ساحة تضمّ مباني رسمية، من ضمنها هيئة الإعلام، يجلس فهد متكئاً على شاخصة للطرق "آرمة" ويستمع إلى هتاف "إحنا الشعب الخط الأحمر"، ويقول إنه "لهذا الهتاف وقع على مسامعي كوقع مقطوعة موسيقية أدمن سماعها منذ زمن".
منذ سنتين، تخرّج فهد من الجامعة، ويشير إلى أنه "ما زلت أدفع ديوناً استلفها والدي لأجل دراستي، لماذا علي فعل ذلك؟ أريد أن أعيش حياة كريمة في وطني، كفانا فساداً. لماذا ندفع فواتير سلبها غيرنا على غير وجه حق؟ نريد العدالة وتطبيق القانون، نريد أن نعيش بسلام وبكفاف، هذا ما نطلبه".
بمحيط الدوار الرابع، تحلّق فتية حول شاب عبّر عن امتعاضه من إجراءات الحكومة بوصلة غنائية يرافقها وقع أوتار العود، وفي الطرف أخذ آخرون يشبكون الأيادي ويدبكون على وقع هتاف سياسي تبين من خلاله أنهم من قرى مأدبا.
المشهد أشبه ما يكون بلوحة فسيفسائية جمعت كل أطياف الوطن، وهذا هو سر نجاح الاعتصام، الذي لم ينزلق إلى المناطقية أو الإقليمية أو الطائفية وغيرها من المشاكل في المجتمع والتي وصفها أحدهم بأنها صنيعة النظام السياسي الأردني.
من ضمن الحشود، وعلى مفترق بين رجال الدرك الذين تلقوا أوامر صارمة من رؤسائهم بعدم استخدام العنف، تجد الصحافيات والصحافيين يتراكضون بين الحين والآخر لالتقاط الصور وتدوين ملاحظاتهم. صحافيون وناشطون ابتعدوا قليلاً لتحليل المشهد، وتبادل الحديث إلى أين سيذهب هذا الحراك بعدما أوقف رفع المحروقات "مؤقتاً" وأُقيلت الحكومة وتعهّد رئيسها الجديد عمر الرزاز بسحب مشروع القانون.
رئيس الحملة الوطنية من أجل حقوق الطلبة، الناشط فاخر دعّاس، لا يخفي تخوفه من المشهد، ويقول إنه "غير مطمئن لما سيؤول إليه المشهد"، في إشارة منه إلى أن الأمن سيستخدم طرقه وسيتدخل لمحاولة ثني الشباب عن مواصلة الاعتصام، وقتل الحراك الشبابي.
الشارع أضحى منصة للتظاهر والتعبير عن الرأي، فتارة ترى شباباً تجمعوا يرفعون يافطات تطالب بمحاربة الفساد ووقف هدر المال العام من قبل رجال الدولة، تارة باسم قبيلتهم، وآخرون باسم مدينتهم وقريتهم، سقفهم في الهتاف كان أكثر حدة من أهل العاصمة.
التدافع بين المتظاهرين ورجال الدرك كان حاضراً طوال فترات الاحتجاج، فما أن ترى رجال الدرك قد سيطروا على المتظاهرين حتى يحدث العكس، المتظاهرون يريدون الوصول إلى الدوار الرابع القريب من مقر رئاسة الحكومة، لكن قوات الدرك على ما يبدو تلقت تعليمات بعدم السماح لهم بذلك. قالها دركي لأحد المعتصمين بكل صراحة (اتظاهروا هون، وفكّوكوا من الدوار الرابع).
قصة الاعتداء على الدركي بالسلاح الأبيض أخذت نصيباً طيباً من حديث الأيام الأخيرة، الجميع شبه متفق على أن ما حدث هو محاولة لإخراج الحراك الشبابي عن سلميته. ويقول أحدهم إنه كان قريباً من الحادثة، والرجل الذي تعارك مع الدركي اعتاد حمل "الشبرية" كتقليد، لكنه عندما قدم إلى التظاهرة طلب أحد أفراد الدرك منه نزعها، وهو ما رفضه الأخير، وعلى أثرها قام الدركي بأخذها بالقوة، ولدى تعاركهما جُرحت يد الدركي.
الجهاز الرسمي استغل هذه الحادثة وكأنها حالة اعتداء على الدرك، حتى أن التلفزيون الرسمي المحلي وضع على الشريط الإخباري وبلون أحمر عريض (طعن دركي من قبل أحد المتظاهرين والقبض على الجاني)، في محاولة رسمية لتشويه صورة الحراك السلمي، كما يقول آخر.
أما الثلاثيني إبراهيم الجبور، الآتي من البادية الأردنية، فتحدث عن "استرجاع ثروات الأردن المنهوبة"، مضيفاً خلال اعتصامه قرب الدوار الرابع، أن "المراقب للوضع العام في البلاد والمدرك لما يدور يؤمن أن الخروج من الأزمة بشكل تام لا يتم بحلول جزئية مؤقتة، بل يتطلب من النظام قرارات صارمة يلمسها المواطن العادي، تبدأ من خطاب شامل وجريء يضع فيه الملك خطوات الإصلاح الحقيقية معلناً فيه محاربة الفساد وتطبيق ذلك على أرض الواقع، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تعمل وتجتهد على قانون انتخاب عصري وحكومة برلمانية وقبلها ملكية دستورية بكل ما تحمل الكلمة من معنى".
وأضاف أن "الشعب يريد استرجاع ثروات الوطن المنهوبة، فهذا كفيل بسد عجز الموازنة وإعادة الأمور إلى نصابها. لقد خرج المواطن إلى الشارع لأن ذلك كان آخر العلاج، فلا مجلس نواب يمثله، مجلس أتى بصناديق ملوثة ولا حكومة تلتفت لهمومه، فكان الشارع صوته الوحيد". وتابع أن "الوضع الاقتصادي أصبح لا يطاق، ففي ظل قرارات جائرة بحق المواطن وتزايد مضطرد في النفقات وثبات للدخل، فإن الأردن يمر بحالة استثنائية من الوعي الشعبي أصبح معها المواطن قادراً على الخروج دون تنظيم حزبي أو نقابي".
وختم الجبور حديثه بالقول "هي هبّة شعبية تعبر بجدية عن واقع مرير يعيشه المواطن، فالمطالب كثيرة، لكن إذا بدأنا بملكية دستورية حقيقية وحكومة إنقاذ وطني ومحاربة الفساد فحتماً سنكون على الطريق الصحيح". البراغماتية أيضاَ وجدت لها طريقاً في هذا الاعتصام لدى باعة متجولين يحملون قوارير المياه الصغيرة ويبيعونها بأسعار مرتفعة، وكذلك الحال بالنسبة لباعة القهوة والساندويشات. في نهاية اليوم، وفي حوالي الساعة الثانية فجراً، حضر نحو 20 شاباً وشابة، لبسوا زياً موحداً، وبيد كل واحد منهم كيس نفايات ومكنسة لتنظيف المكان، أحدهم نادى زميله بصوت عالٍ "شيلوا كل أشي، حتى بواقي السجائر".