لم يقترف أي رئيس أميركي في التاريخ جلداً ذاتياً لمصالح بلاده على المسرح الدولي كما فعل دونالد ترامب خلال مؤتمره الصحافي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي، يوم الاثنين الماضي. التاريخ سيسجل هذا السقوط المدوي والأداء المتواضع لرئيس دولة عظمى ناتجها المحلي عشرة أضعاف حجم الاقتصاد الروسي. كما أن الوضع الداخلي في واشنطن دخل في مرحلة جديدة من التأزم، في إشارة إلى أن ما قبل قمة هلسنكي ليس كما بعدها. لقاء القمة الثالث في هلسنكي بين القادة الأميركيين والروس سيطبع الذاكرة الأميركية لعقود مقبلة، ويشهد على مدى تحوّل الدينامية بين واشنطن وموسكو، كما على مدى تراجع النفوذ الأميركي حول العالم. في سبتمبر/ أيلول 1990، بعد شهر من غزو العراق للكويت، التقى الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في هلسنكي نظيره السوفييتي ميخائيل غورباتشيف الذي كان يفاوض من موقع ضعف على اعتاب انهيار الاتحاد السوفييتي. اضطر غورباتشيف للقبول بفرض عقوبات على نظام الرئيس العراقي صدام حسين مقابل دعم واشنطن لإصلاحاته. بعدها بسبع سنوات، في شهر مارس/ آذار 1997، التقى الرئيس الأميركي بيل كلينتون في العاصمة الفنلندية أيضاً نظيره الروسي بوريس يلتسين الذي كان غارقاً حينها في أزماته الداخلية ومتخبطاً في الحرب الشيشانية. وافق يلتسين، الذي وصفه خصومه حينها بأنه "دمية" واشنطن، على توسع الحلف الأطلسي في أوروبا الشرقية، لأنه كان في حاجة إلى الدعم الأميركي للانخراط في الاقتصاد العالمي. والآن، في القمة الثالثة، انقلبت المعادلة وأصبح الرئيس الأميركي يعيش أزمة داخلية وأوراقه محدودة ويوصف بأنه "دمية" موسكو، فيما بوتين في وضع هجومي في سورية والقرم الأوكرانية مستفيداً من الانقسام الأميركي - الأوروبي.
ونتيجة علاقاته في واشنطن، تمكن باودر من إقرار قانون ماغنيتسكي في الكونغرس الأميركي عام 2012، وهو القانون الذي حظر سفر وجمّد أصول المتورطين في اعتقال وتعذيب محامي باودر. خلال المؤتمر الصحافي في هلسنكي، كرر بوتين كلامه عن عدم دفع باودر للضرائب في روسيا وأنه هرّب مبلغ 400 مليون دولار إلى الولايات المتحدة ودفعها لحملة كلينتون. باودر كان محور الاجتماع في مدينة نيويورك في شهر يونيو/ حزيران 2016 بين حملة ترامب والمحامية الروسية ناتاليا فيسلنيتسكايا التي نفت أي علاقة لها مع الحكومة الروسية، لكنها ذكرت أنها "مخبرة" لمكتب الادعاء الروسي.
في المقابل، واصل بوتين مسلسل نجاحاته الدبلوماسية خلال الأشهر الأخيرة، فقد عاد ترامب إلى واشنطن في ظل أزمة داخلية متراكمة ومتفاقمة. إدارته غابت عن السمع باحثة عن سرد ما لتبرير ما حصل في المؤتمر الصحافي، فيما مدير الاستخبارات القومية دان كوتس خرج عن صمته في بيان وتحدى رئيسه متمسكاً بتقييم الاستخبارات أن "الكرملين تدخل بالانتخابات الأميركية".
أبعد من ذلك، هناك ثلاثة تداعيات رئيسية لما حصل في العاصمة الفنلندية: أولاً على الحزب الجمهوري نفسه. بين الجمهوريين، هناك من انتقد ترامب بين كبار قيادات الحزب، مثل أعضاء الكونغرس جون ماكين وليندسي غراهام وأورين هاتش وسوزان كولينز، وهناك من هاجم بوتين وتفادى انتقاد ترامب، مثل أعضاء الكونغرس داريل عيسى وتوم كوتون، وهناك من فضّل التزام الصمت. لكن تجمع "الحرية" المحافظ في مجلس النواب لا يزال يقف إلى جانب ترامب بطبيعة الحال، ويحاول الآن التضييق على نائب وزير العدل رود روزنشتاين، الذي يشرف على تحقيق مولر، عبر الطلب من جهاز مستقل داخل الوزارة التحقيق في معلومات عن تهديد روزنشتاين لموظفين في الكونغرس خلال اجتماع معهم في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي. لكن لا بد من متابعة علاقة ترامب مع قناة "فوكس" الإخبارية التي انتقدته بشكل لاذع بعد مؤتمره الصحافي في هلسنكي، وهذا بعد توتر مع صحيفة "صن" البريطانية المملوكة من روبرت مردوخ والتي نشرت تسجيل المقابلة مع الرئيس الأميركي بعدما نفى الأخير مضمون لقائه مع الصحيفة التي انتقد خلالها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. حتى الآن، القاعدة المحافظة متمسكة بترامب، لكن أثر هلسنكي على السياسات الداخلية الأميركية لم يكتمل بعد.
التقليد الأميركي هو ألا يهاجم الرئيس خصومه المحليين خلال جولة خارجية. ترامب في هلسنكي انتقد الحزب الديمقراطي و"غباء" الأميركيين وتقييم المجتمع الاستخباراتي. لم يكن المطلوب منه تحدي بوتين، لكن بدل أن يساوي بين الرئيس الروسي والاستخبارات الأميركية كان عليه أن يحسم الجدل بالقول إن القضاء الأميركي يحسم مسألة التدخل الروسي وليس الرئاسة الأميركية. ترامب يخشى على النظرة إلى شرعيته الدستورية أكثر مما يخشى على صورته النمطية أمام الرأي العام. سعي ترامب لنفي أي دور لروسيا في الانتخابات الأميركية أوحى في هلسنكي كأنه يتواطأ علناً مع بوتين ضد الاستخبارات الأميركية. تعافى ترامب من هفوات وضربات كثيرة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لكن إذا لم يتدارك خطأ هلسنكي بسرعة، فإن الخروج من هذا المأزق السياسي قد يكون صعباً.