بينما يواصل البرلمان الفرنسي، استجوابه لمسؤولين سياسيين وأمنيين، في "قضية بنعلا"، خرج الرئيس إيمانويل ماكرون، مساء الثلاثاء، عن صمته، وظهر بنَفَس هجوميّ يواجه المعارضة، وذلك في لقاء مع نواب أغلبيته البرلمانية، تطرق للقضية.
وشغلت قضية "بنعلا" الرأي العام الفرنسي، وغطّت بسرعة قياسية على فرحة فوز فرنسا بكأس العالم، وتطلبت تشكيل لجان تحقيق برلمانية، وفتح تحقيق قضائي ترتّب عليه توجيه الاتهام لخمسة أشخاص، حتى الآن.
والقضية مرتبطة بألكسندر بنعلا، المتعاون القريب من رئيس الدولة، والذي ظهر في أشرطة فيديو وهو يقوم بضرب متظاهرين ويسيء معاملتهما، في الأول من مايو/أيار، وكان في ذلك اليوم "مراقباً" إلى جانب قوى الأمن المنتشرة بمناسبة عيد العمال، لكنّه كان يحمل شارات الشرطة. ولم يطرده الإليزيه إلا بعد كشف أشرطة الفيديو، وقد أعقب ذلك فتح تحقيق.
واعترف ماكرون، بأنّ ما حدث، في 1 مايو/أيار، كان نوعاً من "الخيانة"، سارداً قصة تقرّبه من بنعلا منذ خوضه حملة الترشح للرئاسة.
وأضاف، في لهجة ساخرة لا تخلو من مرارة: "ألكسندر بنعلا لم يكن لديه سكن بمساحة 300 متر مربع، ألكسندر لم يحصل أبداً على مرتب 10 آلاف يورو، ولم يكن، أبداً، عشيقي، ولم يكن يمتلك الزر النووي".
ووصف ماكرون بنعلا بأنّه "رجُل رَافَقَنا في الحملة الانتخابية، بكثير من الشجاعة والالتزام. وهو رَجلٌ ساهَمَ، في وقت خرجتُ فيه من لا شيء، ولم أكن مدعوماً، وهذا طبيعي، لا من الدولة ولا من الخدمة العمومية، وكان من الشرعي أن أتوفر على أناس ينظّمون التنقلات والاجتماعات العمومية. وتم توظيفه من قِبل الحركة (إلى الأمام)، لمرافقتي بكثير من الالتزام. ومهما سيحدث في هذه القضية، فلن أنسى هذا الالتزام أو أنسى ما فعله".
وفي موقف نادر، سلّط ماكرون، هجومه الشامل على المعارضة البرلمانية، وعلى وسائل الإعلام، من صحافيين ومعلّقين، الذين "يقولون أي شيء، ولا يبحثون عن الحقيقة، بل ويريدون أن يحلّوا محلّ السلطة القضائية"، بحسب قوله.
وأكّد الرئيس الفرنسي أنّ "المسؤول في هذه القضية هو أنا، وأنا وحدي"، وأضاف في تناقض مع حديث مدير مكتبه، "أنا من وضع ثقته في ألكسندر بنعلا، وأنا من أكّد العقوبة". وحتى يقطع الطريق على اتهامات المعارضة بأنه يوفر الحماية للمقربين منه، ومنهم بنعلا، قال ماكرون "لا أحد، بالقرب مني أو في مكتبي، حظيَ، أبداً، بالحماية، أو تملّص من القواعد أو قوانين الجمهورية أو حقوق كل المواطنين".
ومثُل مدير ديوان الرئاسة الفرنسية، باتريك سترزودا، أمس الثلاثاء، أمام لجنة برلمانية على خلفية القضية. وقال سترزودا "اعتبرت أنني لا أملك ما يكفي من المعطيات لتبرير اللجوء إلى المادة 40"، في إشارة إلى القانون الذي يوجب على كل موظف أن يلجأ إلى القضاء في حال معرفته بأي جنحة أو جريمة.
وفي تحدٍّ للمعارضة السياسية التي تمكّنت من زعزعة الأغلبية البرلمانية الرئاسية، الرافضة بداية لاستجواب شخصيات سياسية وأمنية، توجّه ماكرون لها بالقول "إن كانت تريد مسؤولاً، فها هو أمامكم. فليأتوا للبحث عنه".
واستغلت المعارضة القضية التي أدت إلى شلل في البرلمان، واتهمت الحكومة بأنّها تحاول حماية بنعلا. وكثرت التساؤلات بعد أن أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرار كولومب، وقائد شرطة باريس ميشال ديلبويش، في شهادتيهما، الإثنين، أنّهما لم يكونا على علم بمشاركة بنعلا في عملية الشرطة، خلال تظاهرة الأول من مايو/أيار، وأنّه كان من مسؤولية الرئاسة إبلاغ القضاء بأعمال العنف المرتكبة من جانب موظف لديها أو فرض العقاب المناسب.
وإذا كان ماكرون تمكّن، عبر تصريحه، من إنعاش حكومته التي ظلّ صوتها خافتاً طوال الأزمة، وكذلك كتلته البرلمانية المأزومة، إلا أنّ المعارضة استهجنت الطريقة التي خرج فيها الرئيس عن صمته.
وهذا ما عبّرت عنه النائبة عن حزب "الجمهوريون"، فاليري بوايي، بالقول إنّ "الرئيس ماكرون يتصرّف وكأنّه رئيس جماعة".
كما لم تقتنع المعارضة باعتبار ماكرون ما حدث أنّه "خيانة"، و"إلا فلماذا انتظر الرئيس كل هذا الوقت حتى يقوم بتسريح بنعلا؟ ولماذا غطّى عليه وتركه في وظائفه بعد ظهور هذه الوقائع"، بحسب ما كتب الأمين العام للحزب "الاشتراكي"، أوليفيي فور.
وجدّد الحزب "الاشتراكي"، وحزب "فرنسا غير الخاضعة"، دعوتهما إلى ضرورة الاستماع لماكرون، على الرغم من أنّه ليس من صلاحيات القضاء الفرنسي، ولا لجان التحقيق استجواب الرئيس، أثناء ولايته الرئاسية.
ولم يوقَف بنعلا (26 عاماً) عن العمل سوى لأسبوعين في مايو/أيار، ولم يتم إبلاغ النيابة العامة بالاعتداء الذي ارتكبه، على الرغم من أنّ القانون يفرض على الرسميين إخطار السلطات القضائية بأي خرق للقانون.
ويأتي خروج ماكرون عن صمته، في ظل تواصل استجواب البرلمان، بغرفتيه، لمسؤولين سياسيين وأمنيين، وفي ظل تهرّب شبه جماعي من المسؤولية، أو التذرع بعدم الحديث في قضية معروضة، الآن، أمام القضاء، أو تأييد للعقوبة التي حصل عليها بنعلا، باعتبارها "مناسبة".
وأثار تصريح المدير العام للشرطة الوطنية، إيريك مورفان، اليوم الأربعاء، أمام مجلس الشيوخ، جدلاً، بعدما قال إنه لم يطّلع على حضور بنعلا، إلا بعد صدور مقال صحيفة "لوموند"، أي بعد أكثر من شهرين ونصف على الحادثة.
كما نفى مورفان، علمه بالتذمر والغضب الذي عبّرت عنه نقابات الشرطة، أمام مجلس الشيوخ، من "تصرفات وأوامر شخص لا علاقة له بجسمَي الشرطة أو الدرك، وهو ألكسندر بنعلا، الذي كان معروفا بلقب (رامبو)، والذي كان ينشر الرعب"، بحسب قوله.
وأمام الإجابات المتناقضة التي صدرت، حتى الآن، من كل المستجوبين، يعلّق بعض النواب الأمل على استجواب الأمين العام للإليزيه، ألكسي كوهلر، يوم الخميس، علّهم يظفرون ببعض المعلومات التي تحدّد المسؤوليات الحقيقية، وتتجاوز إلقاء المسؤولية على بنعلا وعلى ستزودا.
ويواجه بنعلا اتهامات بممارسة العنف وانتحال صفة شرطي، لكن لم يتضح بعد من أعطاه شارة الشرطة وجهاز الاتصالات. ودان بنعلا، الإثنين، ما وصفه "الاستغلال الإعلامي والسياسي" لتدخّله في التظاهرة، موضحاً أنّه كان يرغب في "مساعدة" الشرطيين في مواجهة المتظاهرين، وذلك في بيان صادر عن محاميه.
وفي البيان قال إنّه رصد في ذلك اليوم "شخصين عنيفين" وأراد "المساعدة في السيطرة عليهما" كما تتيح في نظره مادة في قانون العقوبات. وتابع أنّ "هذه المبادرة الشخصية تستخدم اليوم للمساس برئاسة الجمهورية".
وتزامناً مع "قضية بنعلا"، أظهر استطلاع أجرته "إيبسوس"، ونشر، أمس الثلاثاء، تراجع شعبية ماكرون إلى أدنى مستوياتها منذ سبتمبر/أيلول 2017. وأفاد الاستطلاع الذي أُجري لحساب مجلة "لوبوان"، بعد يومين من كشف صحيفة "لوموند" القضية، أنّ نسبة مؤيدي ماكرون تراجعت أربع نقاط وبلغت 32 في المائة.