رغم استمرار الاحتجاجات في مدينة البصرة جنوبي العراق، ولو على نحو أقل زخماً من الأسابيع الماضية إلا أنها غابت عن التناول السياسي وتغطيات وسائل الإعلام العراقي المحلية، بعد الدخول في مشقة المباحثات السياسية بشأن الأسماء المرشحة لتسلّم منصبي رئاسة الجمهورية والوزراء، التي طغت عليها ملامح التوافقات والمصالح والتنافس بين الأحزاب الكردية والشيعية، كما هو العرف السياسي الذي تكرّس عقب الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003. ولا تزال التظاهرات الشعبية في الجنوب مستمرة بعد ارتفاع أعداد المصابين بالتسمم والأمراض المعوية والمغص جراء المياه الفاسدة التي تصل إلى بيوت المواطنين، إلى 80 ألف مواطن بحسب مصادر مختصة كشفت ذلك لـ"العربي الجديد"، وبلوغ عدد المعتقلين لدى القوات العسكرية أكثر من 100 شخص.
في المقابل استمر المتظاهرون بالمطالبة بإصلاح منظومات المياه وبناء محطات تحلية لماء البحر ليصبح صالحاً للاستخدام البشري، وإصلاح الكهرباء وتوفير فرص العمل ومحاربة الفساد، والتحقيق بمقتل عشرات المتظاهرين خلال الأسابيع الماضية واصابة المئات، بنيران القوات العراقية ومليشيات "الحشد الشعبي"، التي واجهت المحتجين على سوء الخدمات بالرصاص الحي في أحياء متفرقة من البصرة، وأعقب ذلك أعمال عنف واسعة النطاق تمثلت بإحراق القنصلية الإيرانية ومقار حكومية ومكاتب أحزاب شيعية بارزة مقربة من طهران، على رأسها "منظمة بدر" بزعامة هادي العامري و"عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي.
وتطور المشهد، حتى باشرت القوات العراقية من الجيش والرد السريع "سوات"، والاستخبارات وجهاز "الأمن الوطني"، بحملة اعتقالات كبيرة لناشطين وقياديين في التظاهرات لا سيما أعضاء اللجان التنسيقية في الأحياء، واختفاء العديد منهم، فيما شهدت الأسابيع الماضية، بروز ظاهرة لم تكن موجودة في البصرة، وهي العثور على جثث لمتظاهرين، قضوا بعد مشاركتهم في الاحتجاجات.
وبحسب الناشط من حي أبو الخصيب بالبصرة، محمد الزيداني، فإن "أعداد المتظاهرين الذين تم اعتقالهم منذ بداية التظاهرات في يوليو/ تموز الماضي، اقتربت من 120 معتقلاً، تم إطلاق سراح 20 منهم، بعد إجبارهم على التعهد بعدم التظاهر مرة أخرى، والاعتداء عليهم بالضرب، بأساليب لا تقبلها المنظمات الحقوقية والإنسانية، فيما بقي قرابة 100 متظاهر في سجون المدينة، والسلطات الأمنية ترفض إطلاق سراحهم، بل وترفض أن يلتقوا بأهلهم وذويهم".
وأضاف الزيداني في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "أحياء أبي الخصيب، والقرنة ومناوي باشا والجزائر، والقبلة والهارثة، وشط العرب والبراضعية، شهدت الأسبوع الماضي ارتفاعاً كبيراً في أعداد المصابين بالتسمم ومعظمهم من الأطفال والنساء. ومنذ انطلاق التظاهرات وسقوط العشرات من القتلى لم تشهد المحافظة أي تطور على صعيد الخدمات، سوى الزيارات السياسية الفارغة، التي لم تساهم في حل أي مشكلة"، مبيناً أن "الحكومة المحلية في البصرة بالتعاون مع ناشطي البصرة، كشفوا للحكومة الاتحادية في بغداد، عن أسماء المتجاوزين على المياه الصالحة للاستخدام البشري في مناطق شمال البصرة، لكن الحكومة لم تحرك ساكناً لأن بعض المتجاوزين، سياسيون معروفون في بغداد، وقادة في الحشد الشعبي، وقد وضعوا أقفاصا للأسماك وحوروا مسارات بعض الجداول في شمال المدينة، لصالحهم".
ولفت إلى أن "وزارة الموارد المائية عملت خلال الأيام الماضية على توفير المياه الصالحة للشرب عبر طريقة المراشنة، أي أن كل منطقة لها نصيب من ساعات توفر المياه، وهي طريقة فاشلة، لأن مدينة البصرة كبيرة، وتشهد كثافة سكانية، فليس من المعقول أن حيّاً يتألف من 100 ألف نسمة، تتوفر لديه المياه الجيدة لمدة ساعة واحدة في اليوم. هذه الحلول الترقيعية نرفضها، وسنستمر بالتظاهرات حتى تُعالج الحكومة العراقية أزمة البصرة بشكل جذري".
من جانبه، أكد الشيخ العشائري عبيد ساجت، وهو من وجهاء مدينة البصرة، أن "الوعود التي تعهدت الحكومة بالوظائف للمتخرجين من أبناء البصرة، لم تتحقق، ودماء الشهداء الذين سقطوا من أجل المياه لم يتم محاسبة المقصرين فيها والمسؤولين عنها"، مشيراً في حديثٍ لـ"العربي الجديد" إلى أن "التحركات الشعبية الحالية لدى أهالي البصرة هي العصيان المدني للموظفين في عدد من أحياء المدينة، باستثناء العاملين في القطاع الصحي والأمن الداخلي للمناطق".
وخلال الأسبوع الماضي، زار رئيس البرلمان الجديد محمد الحلبوسي، مع وفد برلماني وحكومي ضم نائبيه وعددا من البرلمانيين وممثلي الوزارات الخدمية والسيادية، مدينة البصرة، للاطلاع على وضعها، وانتهت بإعلانه جملة من القرارات، تمثلت بتشكيل لجنة لإعداد تقرير مفصل عن المحافظة، بالإضافة إلى المدن المحررة من سيطرة تنظيم "داعش"، والمدن المحررة، في حين أعلن عن إطلاق سراح 13 شخصاً من معتقلي التظاهرات، وطالب في الوقت نفسه، قائد شرطة البصرة بإطلاق سراح باقي المتظاهرين المحتجزين ممن لم يتسببوا بالضرر أو إلحاق الأذى بالممتلكات العامة أو الحرق.
في غضون ذلك، أشار النائب في البرلمان عن مدينة البصرة، عامر الفايز، إلى أن "الحكومة العراقية لم تعالج حتى الآن أي مشكلة من مشاكل البصرة، فما تزال أزمة المياه تؤرق الأهالي، لا سيما اللسان الملحي ونقص الخدمات إضافة إلى استمرار الاعتقالات العشوائية للناشطين والمتظاهرين"، مبيناً لـ"العربي الجديد"، أن "جماهير أهالي البصرة، في حالة استغراب حول عدم الاستجابة لمطالبهم، واستمرار المشاكل واللسان الملحي ونقص الخدمات رغم كثرة المناشدات".
وتابع، أن "الجهود البرلمانية الحالية تعمل على منع استمرار الاعتقالات التي فاقت كل التوقعات، وصارت عشوائية لدرجة أن الكثير من المعتقلين لم يكونوا ضمن المتظاهرين، أو كانوا من السلميين إلا أنهم تعرضوا إلى اتهامات كثيرة وتم تحميلهم جرائم لم يرتكبوها، فضلاً عن منع حرية التعبير، وبث الرعب تجاه المتظاهرين الذين يخشون مداهمة منازلهم واعتقالهم".