أقدم الطرف السوري الكردي، الممثل للمجموعات المسلحة المسيطرة على شرقي الفرات، على خطوة إضافية في إطار التفاوض مع نظام بشار الأسد، تحت رعاية روسية، لحسم مصير هذه المنطقة الاستراتيجية، وتفادي الهجوم التركي المحتمل هناك أو إحباط المنطقة الآمنة التي تنوي تركيا إقامتها بموافقة وغطاء أميركيين. لكن الخطة الكردية الجديدة أثارت حفيظة المكوّن العربي في المنطقة، كونه يشكّل غالبية سكانها، إذ اعتبرت عشائر عربية ما يُسمى بـ"الإدارة الذاتية" الكردية "بؤراً احتلالية" من قبل حزب "الاتحاد الديمقراطي"، الذي يتخذ من "وحدات حماية الشعب" الكردية ذراعاً عسكرية له. وفي الوقت الذي اعتبرت "الإدارة الذاتية" أنها تقدّم خارطة طريق للتفاوض "عقب حوارات مع جميع المكونات المجتمعية في شمال شرق سورية"، رأت جهات كردية أخرى أن حزب "الاتحاد الديمقراطي" هو فعلياً حزب غير سوري، وأنّ أكراد سورية لا يثقون بالنظام السوري، معتبرين بقاءه في السلطة عودة إلى الاستبداد.
ونُشرت يوم السبت "ورقة" تتضمّن بنوداً من المفترض أن تكون محلّ تفاوض بين "الوحدات" الكردية، النواة الصلبة لـ"قوات سورية الديمقراطية" التي تسيطر على أغلب منطقة شرقي نهر الفرات السورية، وبين النظام السوري، برعاية من الجانب الروسي، لحسم مصير المنطقة. وتؤكد الورقة على "وحدة الأراضي السورية"، وعلى أنّ "النظام في سورية نظام جمهوري ديمقراطي، والإدارات الذاتية جزء من هذا النظام"، وأن يكون لهذه الإدارات "ممثلون في البرلمان".
ويطالب الجانب الكردي من خلال الورقة، التي سلّمت للجانب الروسي أخيراً، "بأن تكون هناك أعلام تمثّل الإدارات الذاتية، إلى جانب العلم السوري، وأن تكون قسد جزءاً من الجيش السوري، والمسؤولة عن حماية الحدود السورية، وأن تعمل قوى الأمن الداخلي في مناطق الإدارات الذاتية وفق المجالس المحلية، بما لا يتعارض مع الدستور السوري". كذلك تطالب "الوحدات" بأن "يكون التعليم باللغة الأم (الكردية)، وهي أساس التعليم في مناطق الإدارات الذاتية، واللغة العربية هي اللغة الرسمية في عموم سورية، وأن توزّع الثروات السورية على المناطق السورية بشكل عادل".
وتؤكد الورقة أنّ "الوحدات" الكردية التي شكّلت ما يسمى بـ"الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سورية منذ عام 2013، تتعامل كسلطة أمر واقع في منطقة شرقي الفرات، التي يشكل العرب غالبية سكانها.
وتحاول "قسد" تجنّب عملية عسكرية تركية تقصيها عن المشهد السوري من خلال الهروب إلى الأمام بالتفاوض مع النظام، الذي تواطأ معها في عام 2012 وسلّمها أغلب مناطق الشمال الشرقي السوري لمحاصرة الحراك الثوري. وخرجت "الوحدات" الكردية من تحت عباءة النظام في عام 2014، بعد أن أصبحت الذراع البرية لـ"التحالف الدولي" ضد تنظيم "داعش"، حيث دفعها الدعم الأميركي لوضع أسس إقليم ذي صبغة كردية في شمال شرقي سورية، أثار قلق الأتراك.
ولطالما رفض النظام معاملة "الوحدات" الكردية معاملة الندّ، محذراً إياها من مصير السحق على يد قواته في حال عدم تسليم شرقي الفرات من دون شرط. ولكن وجود قوات أميركية لجم النظام ومنعه من اقتحام المنطقة. وأكد مسؤولو النظام أكثر من مرة رفضهم التفاوض مع الأكراد على أساس منحهم امتيازات جديدة تتعلّق بالاعتراف بالإدارات الذاتية، وحصر هذا التفاوض بمنح الأكراد حقوقاً ثقافية لا أكثر ولا أقل.
ومن خلال نظرة متفحّصة على ورقة "الوحدات" الكردية، يتبيّن أنّ الأخيرة تقدّم ورقة حوار لا تفاوض، إذ ليس من المتوقّع أن يمنحها النظام أكثر من امتيازات شخصية لبعض قياداتها. ومن الواضح أنّ "الوحدات" تبحث عن اعتراف من النظام بها، من خلال المطالبة برفع أعلامها في شمال شرقي سورية، واعتماد اللغة الكردية لغة تعليم، في حين يبحث النظام عن استسلام غير مشروط، وتسليم المنطقة برمتها له، خصوصاً أنه يدرك أنّ الأكراد باتوا في وضع لا يسمح لهم بإملاء الشروط مع الانسحاب الأميركي والضغط التركي.
كذلك يصرّ النظام على حلّ قوات "قسد" وحلّ قوى الأمن الداخلي التابعة لـ"الوحدات" الكردية، لقطع الطريق أمام محاولات شرعنة وجود قوات بديلة، ربما تحلّ محلّ قواته، وجلّ ما يطرحه عدم ملاحقة المنتسبين لهذه القوات. كذلك يرفض النظام مبدأ اللامركزية بالإدارة، ومن ثمّ ليس من الوارد الاعتراف بالإدارات الذاتية التي تطالب بها "الوحدات" الكردية، لأنها ستكون مقدمة لتقسيم البلاد، وهو ما يرفضه عموم السوريين.
ويحاول الجانب الكردي الحصول على ضمانات تتعلّق بتوزيع الثروة، كون شمالي شرقي سورية غنياً بالثروات التي استأثر بها النظام طيلة عقود، وتسيطر عليها حالياً "الوحدات" الكردية، من ثروة نفطية وزراعية. ولكن النظام يسعى للسيطرة مجدداً على هذه الثروات، خصوصاً أنّ اقتصاده كان يعتمد على ثروات منطقة شرقي الفرات التي تضمّ محافظات الرقة والحسكة ودير الزور، التي تعدّ هي سورية المفيدة.
إلى ذلك، لقيت الورقة رفضاً كبيراً من أطراف عدة، إذ أعلنت عشائر عربية في محافظات دير الزور والحسكة والرقة في بيان لها، وزّع يوم السبت، أنّ الإدارة الذاتية "هي بؤر احتلالية من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي لمدن وبلدات عربية بالكامل، تمّ تحريرها من داعش بالتشارك مع المقاتلين من أبناء المنطقة، والذين تزيد نسبتهم في القوات المشاركة عن 80 في المائة". وأضافت "أهل المنطقة يحرّرون مدنهم وبلداتهم التي لا يقطنها ولا كردي واحد، والاتحاد الديمقراطي يضمها لإدارته الذاتية، وتصبح منطقة كردية، في مشهد سريالي لا مثيل له في التاريخ، ومن ثمّ يقومون بمساومة الأسد بالاعتراف بسلطته عليها، مقابل اعترافهم بشرعيته".
وأكّدت العشائر رفضها لـ"أي خطط أخرى تصبّ في الاتجاه نفسه، والتي تصدر عن الاتحاد الديمقراطي، كجهة أجنبية محتلة لأراضينا وناهبة لخيرات مدننا وبلداتنا وقرانا، ومنتهكة لحقوق أهلنا السكان المحليين، ولا علاقة لها بالمنطقة الشرقية عموماً"، وفق البيان. كذلك، خرجت تظاهرات في مدن عدة شرقي الفرات رفعت شعارات منددة بالتقارب مع النظام، مهددةً بقلب الطاولة في حال تسليم المنطقة له.
من جانبه، أشار الباحث السياسي المقرّب من "الإدارة الذاتية" الكردية، إدريس نعسان، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "البنود التي قدّمتها الإدارة الذاتية تعتبر بمثابة خارطة طريق للتفاوض على أساسها مع الحكومة السورية، برعاية روسية وضمانة دولية"، مضيفاً أنه "رغم حدوث مفاوضات أو لقاءات تمهيدية في السابق، لكنها لم تتمخّض عن نتائج حقيقية يمكن الاستناد إليها لإيجاد صيغة مشتركة لإدارة مناطق النظام ومناطق الإدارة الذاتية". وأوضح نعسان أنّ "الإدارة الذاتية وضعت عدداً من البنود لتوضيح رؤيتها لصيغة الحلّ في البلد، وشكل ومستقبل سورية التي تتطلع إليها مكونات مناطقها"، مشيراً إلى أنها "توصّلت عبر مناقشاتها المستمرة والحوارات المتواصلة مع جميع المكونات المجتمعية في شمال شرق سورية، إلى وضع الخارطة الأخيرة كأساس للتفاوض مع الحكومة السورية".
وحول موعد بدء المفاوضات، قال نعسان إنّ ذلك "يعتمد على توفّر الإرادة الحقيقية لدى الطرف الآخر، وكذلك استعداد روسيا لرعايتها ولتقديم الضمانات اللازمة التي من شأنها تبديد مخاوف الإدارة الذاتية تجاه التزام الحكومة السورية بمخرجات التفاهم، وكذلك توفير الحماية الدولية اللازمة ضدّ التهديدات الخارجية، ولا سيما التركية على الحدود الشمالية السورية".
ولا يمثّل حزب "الاتحاد الديمقراطي"، صاحب مبادرة التفاوض مع النظام، سوى جانب من الشارع الكردي السوري الذي يرفض مبدأ العودة إلى النظام الذي لطالما مارس الانتهاكات بحق الأكراد السوريين منذ عام 1963.
وفي هذا السياق، قال رديف مصطفى، نائب رئيس "رابطة الأكراد السوريين المستقلين"، في حديث مع "العربي الجديد": "نحن نعتقد أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي هو فعلياً حزب غير سوري، نظراً لتبعيته السياسية والعسكرية لحزب العمال الكردستاني، وبالتالي إذا أراد طرح أي مبادرة أو مشروع وطني، فعليه فكّ ارتباطه بالعمال الكردستاني". وأضاف "نحن أكراد سورية بغالبيتنا لا تثق بالنظام السوري ونعتقد أنّ بقاءه في السلطة يعني العودة إلى الاستبداد والديكتاتورية. هذا النظام عاجز فعلياً عن حلّ أي قضية وطنية عالقة، منها القضية الكردية، ونعتبر أنّ نظام الأسد نظام غير شرعي ومغتصب للسلطة، وارتكب جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية، وينبغي محاكمة رموزه وأركانه".
وأعرب مصطفى عن قناعته بأنّ جيش النظام "ليس جيشاً وطنياً، إنما مجرّد عصابة للقتل والدمار وبصبغة طائفية"، مشيراً إلى أنّ "القبول بنظام مركزي، يعني أنّ فكرة الإدارة الذاتية والاعتراف بها لا معنى لها". وتابع "نحن أكراد سورية، مكوّن أساسي من مكونات الشعب السوري، له ما لنا وعليه ما علينا، والقضية الكردية في سورية هي قضية وطنية ديمقراطية بامتياز، ولا يمكن حلّها إلا في إطار دولة وطنية ديمقراطية حرة قائمة على أساس دستور جديد يضمن سيادة القانون وحقوق المواطنة. أما في ما يخصّ اللغة والحقوق الاجتماعية، فباعتقادي هذه حقوق طبيعية ملتصقة بالبشر، وهي ليست منحة من أحد، وليست مجالاً للتفاوض أصلاً".