قوانين السيسي تتجاهل دستوره وتفتح الباب للإخفاء القسري

05 يناير 2019
يمكن للشرطة توقيف المواطنين دون أمر قضائي (إبراهيم رمضان/الأناضول)
+ الخط -

عندما كُتب الدستور المصري الحالي في 2012 وتم تعديله في 2014 كانت مسألة الاختفاء القسري شاخصة في أذهان المشرعين، إذ نصت المادة 54 على أن "الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته إلّا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق. ويجب أن يبلغ فوراً كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويمكّن من الاتصال بذويه وبمحاميه فوراً، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال 24 ساعة من وقت تقييد حريته". كما تنص المادة 55 على أن "كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته، تجب معاملته بما يحفظ كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً. ولا يكون حجزه أو حبسه إلّا في أماكن مخصصة لذلك، لائقة إنسانياً وصحياً، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة".

ويظهر من ذلك أن الدستور يلزم الشرطة، أو أي جهة تحرٍ أو ضبط أخرى، بالحصول على إذن القضاء أولاً قبل القبض على أي شخص، وألّا تتجاوز فترة التحفظ عليه، قبل عرضه على سلطة التحقيق، مدة 24 ساعة، مع إخطاره بأنه مقبوض عليه بأمر جهة التحقيق. لكن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عندما أصدر قانون مكافحة الإرهاب في العام 2015 ضمن المادة 40 منه أحكاماً مناقضة نظرياً وعملياً للإلزام الدستوري، فهذه المادة تسمح "لمأمور الضبط القضائي، لدى قيام خطر من أخطار جريمة الإرهاب ولضرورة تقتضيها مواجهة هذا الخطر، الحق في جمع الاستدلالات عنها والبحث عن مرتكبيها والتحفظ عليهم لمدة لا تجاوز 24 ساعة"، على أن "يحرر مأمور الضبط القضائي محضراً بالإجراءات ويعرض المتحفظ عليه، بصحبة المحضر، على النيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة بحسب الأحوال".

وبعد أن فتحت المادة بذلك الباب أمام الشرطة أو جهات التحري والضبط الأخرى (مأمور الضبط القضائي) القبض على المواطنين دون أمر قضائي، عادت المادة لتسمح "للنيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة أن تأمر باستمرار التحفظ (على الشخص) لمدة 14 يوماً، ولا تجدد إلّا مرة واحدة، ويصدر الأمر مسبباً من محامٍ عام على الأقل". ويعني هذا أن النيابة باتت تملك سلطة السماح للشرطة باستمرار التحفظ على المتهمين، دون صدور قرار بحبسهم، احتياطياً لأسبوعين كاملين، ويمكن تمديد الفترة لتصبح شهراً كاملاً. وبالتالي أعطى قانون مكافحة الإرهاب شرعية إجرائية لعمليات الإخفاء القسري قصيرة الأمد التي تمارسها بانتظام الشرطة المصرية، إذ أصبح من الشائع ظهور المعتقلين، بعد القبض عليهم في النيابة بأكثر من أسبوعين أو ثلاثة، مع إمكانية احتجازهم خلال تلك الفترة في معسكرات الأمن المركزي أو مقار الأمن الوطني لاستجوابهم، بالاستفادة من قرارات سرية غير منشورة صدرت من وزير الداخلية باعتماد تلك المقرات كأماكن مخصصة قانوناً للتحفظ على المتهمين، ثم السماح بنقلهم إلى السجون بعد بدء إصدار قرارات الحبس الاحتياطي ضدهم.


وتحققت لأجهزة النظام تلك الحماية في وقت كان يجب أن تبادر الدولة بالتوقيع على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الصادرة في أول ديسمبر/كانون الأول 2006، والتي تحظر بشكل قاطع تعريض أي شخص للاختفاء القسري، وتحظر التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب أو بانعدام الاستقرار السياسي، إذ إن مصر من الدول القليلة على مستوى العالم التي لم توقع على هذه الاتفاقية. ويتجه رأي قانوني إلى أن عدم توقيع مصر على تلك الاتفاقية لا يبرر مخالفتها، كما لا يبرر مخالفة دستورها المحلي بطبيعة الحال، إذ إن المادة 93 من الدستور تنص على أن "تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة"، وهو ما يعني أن ما توقع عليه القاهرة أصبح يتمتع بقوة الإلزام القانوني الداخلي، أما ما لم توقع عليه فيبقى محتفظاً بإلزام أدبي دولي، بما أن مصر عضو مؤسس في منظمة الأمم المتحدة.

وإلى جانب هذه المخالفة الدستورية، التي أصبحت مقوننة، ويحاول العديد من المحامين إيجاد ثغرة للطعن فيها أمام المحكمة الدستورية، فإن استمرار ممارسة الشرطة والأجهزة الأخرى للإخفاء القسري لا يتصادم وحسب مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بل يخالف كذلك حكماً نهائياً وباتاً يمثل مبدأً قضائياً، أصدرته المحكمة الإدارية العليا في يوليو/تموز 2017 في الدعوى الخاصة بالإفصاح عن مصير المواطنة أسماء خلف شندين، التي اختفت في ظروف غامضة في 2014، وصدر حكم من القضاء الإداري بإلزام الشرطة بالإفصاح عن مكان اختفائها في العام 2016، لكنه لم ينفذ حتى الآن. وأعلنت الشرطة أن أسماء، التي كانت تعمل طبيبة، هربت من ذويها لأنهم كانوا يحاولون إجبارها على الزواج. لكن المبدأ الذي أرسته المحكمة الإدارية العليا ذهب إلى أبعد من واقعة المواطنة، وجاء عابراً لشخصنة الحالات، وكأنه يرد على سلوك النظام في إبراز حالات بعينها تبين أنها ليست مختفية قسرياً وإهمال مئات آخرين، محاولاً التشكيك في الروايات المتواترة، ولصق تهم الانضمام للتنظيمات الإرهابية لجميع المختفين. وأكد الحكم أن "امتناع وزارة الداخلية عن الإرشاد عن مكان المختفين، واكتفاءها بكلمات موجزة بأنه لم يُستدل عليهم، أو أنهم ليسوا مدرجين بقاعدة بيانات نزلاء السجون، وعدم كشف حالة الغموض المحيطة بتلك الحالات، أمر يتصادم مع واجبات وزارة الداخلية الدستورية والتزاماتها وواجباتها القانونية، ويبدد كرامة الفرد التي هي انعكاس طبيعي لكرامة الوطن، ويجافي الالتزام الدولي بحظر الاختفاء القسري".