لم يستمرّ الانقلاب العسكري في الغابون سوى بضع ساعات، أمس الاثنين، مع استعادة الحكومة السيطرة على الضباط المنقلبين، في مشهد أفريقي "اعتيادي"، وفي ظلّ استمرار غياب الرئيس علي بونغو عن البلاد منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حين أُصيب بسكتة دماغية، ممضياً رحلة علاجه بين السعودية والمغرب. وبعد صباح عاصف في ليبرفيل، مع إعلان ضباط منقلبين السيطرة على البلاد، أعلن المتحدّث باسم حكومة الغابون غي بيرتران مابانغو أن "الوضع في الغابون تحت السيطرة، وجرى توقيف المتمردين بعدما حاولوا الهرب". وقال مابانغو إن "الهدوء عاد، والوضع تحت السيطرة"، مضيفاً أنه "من أصل خمسة عسكريين استولوا على مبنى الإذاعة والتلفزيون الوطني، ليل الأحد الاثنين، تم توقيف أربعة ولاذ واحد بالفرار". وأضاف أن "قوات الأمن نشرت في العاصمة وستبقى في الأيام المقبلة لضمان النظام، فيما ستبقى حدود البلاد مفتوحة".
وكان الضباط المنقلبون قد دعوا إلى "انتفاضة" شعبية، معلنين تشكيل "مجلس وطني للإصلاح" قريباً في غياب بونغو، في رسالة عبر الإذاعة الرسمية. وتلا الرسالة عسكري قدّم نفسه على أنه مساعد قائد الحرس الجمهوري ورئيس "الحركة الوطنية لشبيبة قوات الدفاع والأمن في الغابون"، كيلي أوندو أوبيانغ، وظهر ثلاثة عسكريين يضعون القبعات الخضراء الخاصة بعناصر الحرس الجمهوري في مقطع الفيديو الذي تداولته مواقع التواصل الاجتماعي. وأضاف أوبيانغ أن "الكلمة التي ألقاها بونغو بمناسبة العام الجديد، عزّزت الشكوك في قدرة الرئيس على الاستمرار في القيام بمسؤوليات منصبه". وأشار إلى أنه "تم تنفيذ الانقلاب ضد هؤلاء الذين اغتالوا، بوضاعة، أبناء وطننا الشبان ليلة 31 أغسطس/ آب 2016"، في إشارة إلى أعمال عنف دامية اندلعت بعدما تم الإعلان عن فوز بونغو في انتخابات متنازع عليها.
وقال العسكري "نطلب من جميع شبان قوى الدفاع والأمن ومن كل شبيبة الغابون الانضمام إلينا"، معلناً تشكيل "المجلس الوطني للإصلاح". وقال "لا يمكننا التخلي عن الوطن"، معتبراً أن "المؤسسات غير شرعية وغير قانونية". وتابع أن "اليوم المرجو حل، وقرر الجيش الوقوف بجانب شعبه لإنقاذ الغابون من الفوضى". وقال "إن كنتم تتناولون الطعام، توقفوا. إن كنتم تتناولون كأساً، توقفوا. إن كنتم نائمين، استيقظوا. أيقظوا جيرانكم، انهضوا معاً وسيطروا على الشارع"، داعياً إلى احتلال المباني العامة والمطارات في جميع أنحاء البلاد.
ثم تمّ الإعلان عن فرض حظر التجوال في العاصمة ليبرفيل، وقطع خدمات الإنترنت. وأفاد سكان في العاصمة بأن الدبابات والمركبات المسلحة تقوم بدوريات في الشوارع. كما سُمعت طلقات نارية حول مبنى الإذاعة والتلفزيون بوسط ليبرفيل، فيما كانت مدرعات تقطع الطريق إلى الموقع. وتجمّع حشد من 300 شخص تقريباً عند مقر المحطة دعما لمحاولة الانقلاب، لكن الجنود أطلقوا الغاز المسيل للدموع لتفريقهم. وساد الهدوء معظم أنحاء ليبرفيل، لكن كان هناك وجود قوي للشرطة والجيش في الشوارع، وحامت طائرات هليكوبتر في الأجواء.
وكان الرئيس قد غادر إلى السعودية في 24 أكتوبر الماضي، بعد إصابته بجلطة، وخضع هناك للعلاج لأكثر من شهر قبل نقله إلى الرباط في المغرب. في 31 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ألقى كلمة في شريط مصوّر سُجّل في الرباط، في أول كلمة يتوجه فيها إلى مواطنيه منذ دخوله إلى المستشفى. وفي كلمته بمناسبة العام الجديد أقرّ بونغو بمشكلاته الصحية لكنه قال إنه "يتعافى"، وتلعثم في نطق بعض الكلمات ولم يحرّك ذراعه اليمنى، لكن بخلاف ذلك بدا في حالة صحية معقولة. وطالبت المعارضة والمجتمع المدني المحكمة الدستورية بإعلان شغور السلطة بموجب الدستور. لكنها لم تلب الطلب ونقلت السلطات جزئياً إلى رئيس الوزراء ونائب الرئيس.
وانتخب علي بونغو رئيساً عام 2009 بعد وفاة والده عمر بونغو الذي حكم البلاد منذ 1967، قبل أن يُعاد انتخابه عام 2016، في انتخابات فاز فيها بفارق ضئيل بلغ أقلّ من 6 آلاف صوت، وأثارت جدلاً واسعاً، ثم اشتباكات دامية بين محتجين ورجال الشرطة، تمّ خلالها إشعال النيران في البرلمان. وتحكم عائلة بونغو الدولة المنتجة للنفط منذ نحو نصف قرن. وقال الاتحاد الأوروبي إنه "وجد مخالفات خلال الانتخابات في إقليم أوت أوجو، معقل بونغو، الذي فاز فيه بنسبة 95 في المائة، بعدما سجّلت نسبة الإقبال على التصويت هناك 99.9 في المائة".
ودان الاتحاد الأفريقي "بشدّة" محاولة الانقلاب، وفق ما أكد رئيس مفوضية الاتحاد موسى فقيه، الذي كتب في تغريدة على موقع "تويتر"، أن "الاتحاد الأفريقي يدين بشدّة محاولة الانقلاب التي وقعت في الغابون". من جهتها، نددت فرنسا بمحاولة الانقلاب ودعت إلى "الاحترام التام" للدستور. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية، آغنيس فون دير مول: "ندين أي محاولة تغيير للنظام خارج إطار الدستور"، مضيفة أن "استقرار الغابون لا يمكن أن يضمن إلا ضمن الاحترام الكامل لبنود دستورها".
أما المغرب، المعني الأساسي بالوضع الغابوني، فيراقب عن كثب التطورات، لأسباب عدة، بدءاً من وجود بونغو في الرباط، ثم لارتباط المصالح الاقتصادية بين البلدين مع تعدد الاستثمارات المغربية في الغابون، فضلاً عن وجود العاهل المغربي محمد السادس في الغابون منذ أيام خلت، حيث قضى ليلة رأس السنة، مثلما فعل خلال السنة الماضية. كما ذكرت معلومات أن عائلة بونغو باتت في الرباط أيضاً.
وأفاد مصدر حكومي مغربي لـ"العربي الجديد"، بأنه "من المرتقب والبديهي أن تدين الرباط محاولة الانقلاب الفاشلة وسعي شرذمة من العسكريين إشاعة الفوضى في البلاد في غياب الرئيس بونغو"، مشدّداً على أن "الرباط تساند الرئيس بونغو من دون شروط، وتأمل في استعادة عافيته قريباً وعودته إلى بلاده سالماً ليباشر مهامه، كما أعلن هو بنفسه ذلك في خطابه الأخير".
وللمغرب استثمارات اقتصادية هائلة في مجالات البناء والسكن والزراعة والاتصالات والصيد البحري في الغابون. وتتيح هذه الاستثمارات تشغيل آلاف الشباب الغابوني، مقابل تأييد ليبرفيل للرباط بمواقف سياسية صلبة في مواقف عدة، وعلى رأسها الصحراء المغربية في المحافل الأفريقية والدولية.
ولم يكن تاريخ الغابون مستقراً بالكامل، فالدولة التي استقلت عن فرنسا في عام 1960، عرفت 3 رؤساء للبلاد، هم ليون مبا (1961 ـ 1967)، وعمر بونغو (1967 ـ 2009)، وابنه علي (2009 ـ حتى اليوم). كما شهدت محاولتي انقلاب في عام 1990. وعلى الرغم من السماح بالتعددية الحزبية في التسعينيات، إلا أنها كانت صورية، بفعل إحكام عائلة بونغو السيطرة على البلاد. وبوجود جيش عديده 5 آلاف جندي فقط، كان واضحاً أن الغرض منه في بلاد يبلغ تعدادها نحو مليون نسمة، هو حماية النظام. وهذا ما تكرّس بتخصيص 1800 جندي لحماية الرئيس.
وتُعتبر الغابون من الدول المؤثرة إيجاباً في استقرار جمهورية الكونغو والكاميرون وغينيا الاستوائية، خصوصاً أنها لم تتورط في الحربين الأهليتين في جمهورية الكونغو، الأولى بين عامي 1993 و1994، والثانية بين عامي 1997 و1999. كما أن ليبرفيل احتضنت مساعي للسلام بين الفريقين. مع العلم أن الغابون تملك ثاني أكبر احتياطي من النفط واليورانيوم في أفريقيا، بعد نيجيريا.
(العربي الجديد، فرانس برس، أسوشييتد برس، رويترز)