بعيداً عن الجانب الإنساني، هل كان ممكناً للرجل القوي في الجزائر، قائد أركان الجيش الراحل الفريق أحمد قايد صالح، أن يساهم بأكثر إيجابية مما فعل، لنقل الجزائر إلى مسار ديمقراطي وتوافقي أفضل من تشدده في التمسك بالخيار الدستوري الذي حل مأزق الرئاسة وأبقى البلد في أزمة سياسية؟
طبعاً في الوقت الحالي الذي تطغى عليه حالة عاطفية عارمة، ليس ممكناً وضع تقييم موضوعي لذلك، إذ إن الإنصاف السياسي والتاريخي يستدعي القيام بذلك بعيداً عن محددات الظرف الراهن الضاغطة، وحتى لا يصبح الأمر حالة من التقديس الأعمى أو التدنيس الظالم. لكن ما هو محل إجماع في الوقت الراهن، ومن قبل جزء كبير من معارضي قائد الجيش ومنتقدي سياساته وخياراته التي فرضها على الجزائريين، قبل مؤيديه من المجموعات السياسية والمدنية، هو تقدير حرصه على الأقل على عصمة الدم خلال الأزمة، ومنعه بشدة قوات الأمن والجيش من استخدام الرصاص ضد المتظاهرين مهما كانت الدوافع والأسباب، برغم حالة التوتر والتشنج التي صاحبت الحراك الشعبي في بعض الفترات والمناطق.
كان ذلك فارقاً مهماً في السياق الجزائري، وتحولاً لافتاً في تعاطي الجيش والمؤسسة العسكرية والأمنية مع الشعب في حالته المنتفضة والمطلبية الاحتجاجية - حتى وإن كان الحراك الشعبي ساهم أيضاً بقسط كبير في ذلك من حيث أنه لم يوفر سبباً يبرر استعمال العنف أو الرصاص ضد المتظاهرين - مقارنة مع ما فعله القائد العسكري عبد الفتاح السيسي بالمصريين في "رابعة" وغيرها، ومقارنة بما حدث في السودان وتونس وليبيا قبل ذلك. ويمنح ذلك الجزائر خصوصية جديدة تضاف إلى جملة من الخصوصيات التي تحكم السلوك السياسي والعسكري في المرحلة الأخيرة في الجزائر، ابتداء من أنه للمرة الأولى في السياق العربي، يحدث أن يتمسك قائد الجيش بالدستور، ويصر على تنفيذ المخارج الدستورية، ويرفض الاستيلاء على السلطة برغم أن الأمر كان متاحاً له، لكن ذلك يشكل في المقابل مؤاخذة مركزية عليه لفرضه هذا الخيار، وإعطابه لمحاولة إطلاق مسار ديمقراطي تشاركي بين الجزائريين، بفعل الخوف على ما كان يعتبره مسارات انتقالية غامضة وغير مضمونة بالنسبة لمؤسسات الدولة.
المعطى الثاني يتعلق بوجود تحول لافت في عقيدة الجيش الجزائري على صعيد التعامل مع الشأن العام والحرص على عدم توجيه البندقية إلى الشعب، مقارنة بمحطات مؤلمة، مثل أحداث "الربيع الأمازيغي" في 1980، وأحداث قسنطينة في 1986، وانتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 1988، واعتصام الإسلاميين في يونيو/ حزيران 1990، وأزمة التسعينيات لاحقاً وأحداث "الربيع الأمازيغي" في 2001. بالتأكيد فإن المرحلة المقبلة بعد استقرار الأوضاع في الجزائر، ستكون مناسبة أكثر لاستقراء طبيعة الظرف السياسي ومواقف وخيارات المؤسسة العسكرية بقيادة قايد صالح، وصياغة موقف نقدي أكثر موضوعية إزاء هذه الخيارات، وما إذا كانت قد غلّبت وانحازت لصالح الاستقرار على حساب الخيار الديمقراطي، واعتمدت هواجس الأمن كمرتكز على تطلعات الديمقراطية.