وليس سراً على أحد أنّ وهج هذا الحراك يشهد تراجعاً، يوماً بعد يوم، بينما يتسلّل الضجر إلى أوساط بعض المتظاهرين، بسبب الانقسامات الحادّة بين قيادات الحراك، وظهور وجوه أعربت عن استعدادها للتحوّل إلى حركات سياسية، تسعى للمشاركة في استحقاقات انتخابية مقبلة.
ويبدو أن "الحوار الوطني الكبير" الذي أطلقه الرئيس إيمانويل ماكرون، بدأ يستهوي قطاعات مجتمعية متزايدة، ما جعل الالتفاف الشعبي الواسع الذي كان يلف الحراك، ينحسر هذا الأسبوع، إذ للمرة الأولى أملت غالبية الفرنسيين (56%) توقف الحراك، بحسب استطلاع نشرت نتائجه، الأربعاء.
وقد احتفت قنوات ووسائل إعلامية، من بينها قناة "بي إف إم. تيفي" التي روّجت، بشكل واسع لاستطلاع الرأي المذكور، وصحيفة "لوفيغارو" التي كرّست مقالاً يتحدث عن الإنهاك الذي أصاب قوى الأمن، بهذا الانحسار الشعبي، وكرّست فقرات طويلة من برامجها، متنبئة بتوقف وشيك لـ"السترات الصفراء" التي عصفت بفرنسا وبحكومتها.
كما يُضاف إلى أسباب تراجع الحراك، الجواب الردعي الذي واجهت به السلطات الأمنية الاحتجاجات منذ بدئها، ولا سيما عبر اعتقال آلاف من المتظاهرين، واللجوء إلى استخدام أسلحة دفاعية أسفرت عن جرح المئات، إصابة عشرات منهم خطيرة ومستدامة.
ولا يُغفل عن الأسباب، الجواب القضائي الذي لجأت عبره السلطات إلى إصدار أحكام بعضها سريعة وقاسية، لم تَسْلم منهم حتى وجوه الحراك الشعبي، كإيريك درووي الذي طلب المدعي العام بحقه السجن شهراً واحداً مع وقف التنفيذ، وغرامة قدرها 500 يورو، بانتظار صدور الحكم يوم 29 مارس/ آذار المقبل.
الآلاف في الشوارع
فقد شهدت باريس ومعها مدن أخرى، جولة رابعة عشرة من الاحتجاجات، اليوم السبت. وبحسب إحصاءات وزارة الداخلية، التي يشكّك فيها متظاهرون، فإنّ فرنسا، وإلى حدود الساعة الثانية بعد الظهر (توقيت محلي) شهدت خروج 10 آلاف و200 متظاهر في كل أنحاد البلاد، من بينهم 3 آلاف متظاهر في العاصمة باريس.
وهذا الرقم هو أقل مما شهدته العاصمة، يوم السبت الماضي، إلا أنّ متظاهرين كثير يشككون في صحته، وهو ما دفع جان لوك ميلانشون زعيم حزب "فرنسا غير الخاضعة"، للتغريد عبر "تويتر" كاتباً: "حشود كبيرة. فشل كلّي لسياسة التهديد والقمع العنيف".
Twitter Post
|
وقد تميّزت تظاهرة باريس بحضور جيروم رودريغيز، وهو أحد وجوه الحراك، الذي يمتاز بشعبية صاعدة، بعد إصابته من قوات الأمن في إحدى عينيه، يوم 26 يناير/ كانون الثاني الماضي.
وعلى الرغم من حرص متظاهرين على أن تتم هذه الاحتجاجات بهدوء، إلا أنّ احتكاكات نشبت في منطقة ليزانفاليد، حين رفضت قوى الأمن السماح للمتظاهرين، وبعضهم كان مقنَّعاً، بعبور جسر "ألكسندر الثالث"، واستخدمت الغازات المسيلة للدموع لتفريقهم.
وقد شهدت مدن فرنسية أخرى من بينها مارسيليا وبوردو، تظاهرات مماثلة، بينما انتهت التظاهرات في تولوز، التي تميّزت بشعارات من بينها: "وحده الموتُ يُوقفنا"، بمواجهات مع قوى الأمن التي لجأت إلى استخدام الغاز المسيل للدموع.
وفي مدينة نانت، حيث تظاهر 1300 شخص، لم تَسلم التظاهرة من الاحتقان ومن مواجهات بين المتظاهرين ورجال الأمن. والمواجهات كذلك امتدت إلى تظاهرات مدينتي لاروشيل ومان. أما في مدينة رْوان، فقد صدمت سيارة الحشود المتظاهرة، متسببة في جرح 3 منهم، في حين شهدت مدينة بونتيفي تظاهر ألفي شخص من "السترات الصفراء".
تراجع الزخم
وعلى الرغم من انخفاض عدد المتظاهرين، بحسب إحصاءات وزارة الداخلية، وبينما تراهن الحكومة على توقّف الاحتجاجات بسبب انخفاض الدعم الشعبي، تمكّن متظاهرو "السترات الصفراء" من مواصلة حراكهم، على مدى ثلاثة أشهر، وتسجيل محطة هي الرابعة عشرة لهم، اليوم السبت.
ومع أنّ شعبية ماكرون شهدت صعوداً طفيفاً، وفق آخر استطلاع للرأي، بررها مراقبون بالعنف المستدام الذي تشهده التظاهرات، وانسداد أفق الحوار مع المتظاهرين، وسط صمّ الحكومة آذانها عن مطالبهم، إلّا أنه لا توجد علامات على توقف وشيك للتظاهرات.
ومع عدم التفات "السترات الصفراء" لاستطلاع الرأي الأخير، والسخرية منه على صفحاته على "فيسبوك"، أُعلنت تظاهرة كبرى، غداً الأحد، 17 فبراير/ شباط، من "ساحة ليتوال" إلى ساحة "شان-دي-مارس" في باريس، إحياءً لذكرى مرور 3 أشهر على انطلاق الاحتجاجات التي بدأت في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني.
كما أعلنت جولات أخرى مقبلة، قد تتجاوز فترة ما بعد الانتهاء من "الحوار الوطني الكبير"، في منتصف إبريل/ نيسان المقبل. هذا الحوار الذي ناقش كلّ شيء، تقريباً، ولكن لا يَعرف نتائجَه وتوصياته أحَد.