مرّ نحو 10 سنوات على تعديل مشروع قانون "الخدمة المدنية الاتحادية" وإصلاح بنوده، في العراق، عبر لجنة عليا شكّلتها بغداد لهذا الغرض. ومع أنه تمّ الإعلان عن جهوزيته منذ عام 2009، إلا أنه منذ إحالته إلى البرلمان لتشريعه، ظلّ حبيس الأحاديث والخلافات السياسية بين الكتل، وضحية عمليات التأجيل المتكررة في التصويت عليه، وذلك لكونه يهدد حصص الأحزاب ويحدّ من قدرتها على التلاعب بالدرجات الوظيفية التي تعلن الحكومة سنوياً عن الآلاف منها في مختلف الوزارات. كما يقلّل من فرص حصر هذه التعيينات بيد كيانات سياسية محددة، لذلك بعد كل قراءة في المجالس النيابية السالفة كان يُهمل ويؤجل التصويت عليه. بالتالي، بات اليوم الخميس، بمثابة تحدٍّ لمحاولة برلمانية جديدة للتصويت عليه لاحقاً، بعد إجراء التعديلات الأخيرة عليه، المتعلقة بالجوانب المالية، لاحتوائه على حقوق وواجبات كل موظفي الدولة، فضلاً عن تضمنه إصدار سلّم رواتب جديد للموظفين.
وبحسب مسودة المشروع التي نشرها الموقع الإلكتروني لمجلس النواب العراقي، فإنه "سيساهم في تصحيح مسار التوظيف وإنهاء هيمنة الأحزاب السياسية على الوظائف واعتمادها في الترويج خلال الانتخابات، عبر اعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة لشغل الوظائف". كما أن "أهداف المشروع قائمة على أنها تحقق مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين، والمهنية والحياد في إدارة الجهاز الإداري، وزيادة الكفاءة والأداء وفعالية دوائر الدولة، إضافةً إلى تحقيق التوازن بين الراتب والأعمال المؤدية".
ولعل هذه الأهداف متفقٌ عليها بين مختلف الأحزاب، بل تمثل البرامج السياسية لغالبيتها، وهي ما تسعى دائماً إلى إظهاره من خلال حملاتها الانتخابية، إلا أن الخلاف في الحقيقة هو على بنود أخرى من المشروع، ومنها ما تتضمنه الفقرات التي تمثل الشروط الأساسية للتوظيف ضمن قانون الخدمة الاتحادية، مثل "خضوع جميع المتقدمين للتوظيف لاختبارات حقيقية بعيداً عن المجاملات والترضية، ويُعين المتقدم في وظيفة تتلاءم مع الدرجة التي يحصل عليها خلال المقابلة". في الواقع، إن هذين الشرطين هما نقطة الخلاف، كونها ستُحرج الأحزاب مع أعضائها الذين تعدهم دائماً بمناصب رفيعة، غالباً لا تتناسب مع شهاداتهم وكفاءاتهم.
في هذا السياق، رأى مستشار في الأمانة العامة لمجلس الوزراء أن "هذا القانون الذي عُطّل التصويت عليه لأكثر من عشرة أعوام، يؤسس بحسب مسودة مشروعه العمود الفقري لدولة المؤسسات، ويعزل الحكومة عن قضية التعيينات، أي أن الخدمة المدنية ستكون ضمن عمل دائرة جديدة، تكون على شكل هيئة مستقلة، كونه سيكون المصدر الأوحد للإعلان عن الوظائف الشاغرة من خلال مجلس الخدمة". وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "هذا المجلس ستكون له مراسلات مع الوزارات بهذا الشأن، ما يعني أن المواطنين سيكونون على ارتباط مباشر بالمجلس، وانتظار اعلاناته، وهو أمر جيد للحكومة".
ونوّه المستشار إلى أن "مجلس الخدمة الاتحادية كان موجوداً منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، ولغاية نظام صدام حسين الذي كان يسمى وقتها (الجهاز المركزي)، والذي كان يأخذ على عاتقه تعيين قضاة وأساتذة ورياضيين وفنانين يشرفون على قضية تعيين الموظفين كلٌ حسب شهادته وما يحصل عليه من درجة خلال المقابلة الشخصية مع أعضاء اللجنة المختصة العاملة ضمن المجلس، من دون محسوبيات".
وذكر أن "هذا المجلس أو طريقة العمل بهذه الآلية، لا تتناسب مع مطامع الأحزاب التي وصلت إلى الحكم في البلاد عقب الاحتلال الأميركي عام 2003، لأنها تفضّل طريقة المحاصصة في توزيع التعيينات والدرجات الوظيفية وتوزيعها على أعضاء الأحزاب أنفسهم وذويهم". لكن المستشار أشار إلى "صعوبة تمرير هذا القانون حالياً في البرلمان، لأن الأحزاب لن توافق عليه، وستقوم بتعطيل الجلسة المخصصة للتصويت، أو ستتعمد الإخلال بالعدد القانوني للنواب الحاضرين".
وحول ذلك أفاد سكرتير عام الحزب الشيوعي، القيادي بتحالف "سائرون" رائد فهمي، بأن "مشروع القانون يهدف لبناء الوظيفة العامة، والتصويت عليه سيصحح الممارسات التي أفرزتها مراحل حكم ما بعد عام 2003، إضافة إلى إنهاء المحاصصة الحزبية والطائفية، وتوزيع المواقع والمقاعد والدرجات الوظيفية بعيداً عن الانتماءات القومية والطائفية والحزبية". وأشار في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن "التأجيل الذي شهده المشروع آخر مرة، كان لاعتبارات مالية، إذ إن اللجنة المالية في البرلمان ذكرت في تعليق أن المشروع فيه ثغرة مالية ولا بد من دراسته، على اعتباره دُرس قانونياً فقط".
ولفت إلى أن "جلسة قراءة المشروع ومناقشته تحتاج إلى مشاركة أوسع من قبل البرلمانيين، ومن ثم التصويت عليه، وسنطرح في المجلس النيابي أن تُشاركنا في الاستماع إلى المناقشات، شخصيات أكاديمية ومختصون وأعضاء من منظمات المجتمع المدني"، موضحاً أن "المشكلة ليست في تمرير هذا المشروع، واعتباره قانوناً، إنما في تنفيذه من قبل الحكومة، ومع أن الموافقة واضحة إعلامياً على تمرير القانون، لكن مع دخوله حيز التنفيذ قد تظهر أحزاب تطالب بالحصول على مقاعد عضوية في مجلس الخدمة الذي يمثل رئاسة دائرة الخدمة المدنية، وهذا الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية قوية لمنع هذه الأحزاب".
بدوره، أكد عضو تيار الحكمة حبيب الطرفي، أن "التعيينات والتوظيف الحكومي فيه إجحاف وعدم إنصاف كبير، بسبب الأحزاب التي تسيطر على المشهد السياسي، وأن بعض الوزارات تحوّلت إلى ملكيات خاصة يديرها حزب واحد ولون واحد. وهذا الأمر قضى على أحلام الناس والخريجين". ولفت في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن "بعض العائلات تراها موجودة بكاملها في مؤسسات ودوائر حكومية معينة، فنجد الأب والأم والأبناء والأنساب، في حين أن هناك عائلات أخرى تضم أكثر من عشرة خريجين عاطلين من العمل". وأضاف أن "وجود جهة مسؤولة عن التعيينات مثل مجلس الخدمة المدنية الاتحادي، بمعايير ومواصفات تعتمد على المهنية والنزاهة، لن يمحو الفساد الإداري إلا أنه سيقلله بنسبة كبيرة".
وروى الطرفي أن "مشروع قانون الخدمة المدنية كان قد طُرح في دورة البرلمان السابقة، إلا أن السيدة التي كان من المؤمل أن تكون على رأس مجلس الخدمة، قالت (أنا أتشرف بكوني مستقلة ولست متحزبة) وهذا التعليق أثار حفيظة الأحزاب، وتم حينها إرجاء استكمال قراءة المشروع في البرلمان وبالتالي تم إهمال الملف بالكامل".