على امتداد سنوات طويلة، نجحت "الجبهة الشعبية" اليسارية في تونس وحركة "النهضة" في تفادي عدوى الانقسامات والاستقالات التي عصفت بكل الأحزاب التونسية من دون استثناء، غير أن ما شهدته الجبهة في اليومين الأخيرين من تصدّع، أخرجها من هذا الاستثناء.
وعرفت الجبهة منذ تأسيسها مشاكل عدة بسبب تركيبتها المعقدة (11 حزباً ومكوّناً من مشارب فكرية يسارية متعددة) ولكنها نجحت في كل مرة في تطويقها وتجاوز تداعياتها، غير أن الانتخابات المنتظرة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل عمّقت هذه المشاكل وانتهت إلى توجيه ضربة قوية لهذا الفصيل اليساري، مع تأكيد مصادر من داخلها لـ"العربي الجديد" أن هناك محاولات لتطويقها على الرغم من صعوبة الأمر.
وانطلقت الخلافات الأخيرة بسبب اقتراح حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد" اسم المنجي الرحوي كمرشح محتمل للانتخابات الرئاسية على أن يتم تدارس ذلك داخل الجبهة، بدلاً من حمة الهمامي، المتحدث الرسمي باسم الجبهة ومرشحها في الانتخابات الماضية الذي حل فيها ثالثاً بعد الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي. غير أن هذا المقترح جوبه برفض من بعض الأحزاب الأخرى، كحزب "العمال"، و"التيار الشعبي" و"رابطة اليسار العمالي"، وحزب "الطليعة العربي الديمقراطي"، وحركة "البعث"، وحزب "الوطد" الاشتراكي والحزب "الشعبي للحرية والتقدم"، التي تمسكت بترشيح زعيم حزب "العمال" حمة الهمامي مجدداً للانتخابات الرئاسية المقبلة.
وقدّم عدد من نواب كتلة "الجبهة الشعبية" في البرلمان التونسي استقالاتهم إلى مكتب مجلس النواب، يوم الثلاثاء الماضي، ما يهدد باندثار الكتلة تماماً من المشهد إذا لم يتم إقناعهم بالتراجع في الأيام القليلة المقبلة. وسعت بعض القيادات جاهدة في الساعات الأخيرة لإقناع المستقيلين بالتراجع، وعدم تفكيك الجبهة عشية انتخابات قوية يرى البعض أنها حاسمة في تاريخ تونس، وتعتقد بعض قوى الجبهة أنها تشكّل فرصة كبيرة أمامها بسبب ضعف أداء المنظومة الحالية وسوء نتائجها الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى الرغم من أن الخلاف بدأ بين حزبي "الديمقراطيين الموحد" و"العمال"، إلا أن المستقيلين ينتمون إلى فصائل أخرى، من بينهم رئيس الكتلة أحمد الصديق (من حزب الطليعة العربي)، الذي قال في تصريح لوكالة الأنباء التونسية إنه استقال من رئاسة الكتلة بسبب عدم إيجاد حل للأزمة "التي تعصف بالجبهة الشعبية عموماً"، مؤكداً "ضرورة بذل جهود لرأب الصدع وتجاوز الأزمة، وهذا واجب على كل الأطراف، لأن البلاد ما زالت في حاجة إلى الجبهة الشعبية"، على حد قوله.
من جهته، دعا حزب "القطب" (أحد مكوّنات الجبهة)، القوى التقدمية إلى "المحافظة على وحدتها ورص صفوفها للتصدي للائتلاف الحاكم والقوى الرجعية الصاعدة". وأوصى في بيان له، بمواصلة هذه القوى الاضطلاع بالدور الاحتجاجي والنقدي وبلورة مقترحات وبدائل تستجيب لمصالح الفئات "الشعبية والوسطى". وأضاف أنه عمل جاهداً لتقريب وجهات النظر بين مكوّنات "الجبهة الشعبية"، معرباً عن "الأسف والانزعاج" من استقالة تسعة نواب من كتلة الجبهة في البرلمان.
اقــرأ أيضاً
ولكن هذا الخلاف الجديد بشأن الرئاسيات ليس إلا مجرد سبب أخفى تناقضات فكرية وتكتيكية عديدة بين مختلف مكوّنات الجبهة، على الرغم من أن ظروف المشهد السياسي وتطوراته ساهمت في الحفاظ على وحدة الجبهة من الخارج، من دون أن تلغي أو تنهي هذه الاختلافات الجوهرية القديمة بين الفصائل اليسارية منذ الثمانينيات في الجامعة وقبل الثورة وتأسيس "الجبهة الشعبية".
وكانت بداية الأزمة مع خروج النائب المنجي الرحوي عن تحفّظه وانضباطه السياسي، بحسب اتهام بقية رفاقه في الجبهة، فقال في تصريحات صحافية متتالية إنه في حال بقاء الجبهة على حالها فإنها قد لا تحصل على عدد النواب الذي أحرزته في انتخابات 2014، خصوصاً إذا تغيّر القانون الانتخابي، مجدداً الدعوة إلى حسم المسألة التنظيمية وتطوير هيكلة الجبهة، وطرح مبدأ تغيير الزعامة وإصلاح الجبهة، خصوصاً بعد النتائج المتواضعة التي حققتها في الانتخابات البلدية.
وكان الأمين العام لحزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، القيادي في "الجبهة الشعبية"، زياد لخضر، قد اعتبر أن "هناك أطرافاً في الجبهة الشعبية لا تقبل النقد الذاتي وتريد مواصلة مسار هذا المشروع على الخط نفسه، ونحن لسنا مع هذا، وفي الحقيقة لا نعتبر أن الخلاف حُسم، خصوصاً أن بعض الأطراف ذهبت إلى تشكيل قائمة انتخابية في بلدية باردو من دون مشاورتنا، مصرّة بذلك على إقصائنا، وهذا وجه من أوجه التوتر التي تعيشها الجبهة في الفترة الراهنة". وأضاف في حوار صحافي، أن حزبه رشح المنجي الرحوي "كمقترح للجبهة حتى يمثلها في الانتخابات الرئاسية، بينما الأطراف الأخرى لم توافق على ذلك، ونحن اقترحنا توسيع آلية الاستشارة داخل الجبهة، غير أن بعض الأحزاب اختارت أن تحسم الأمر بطريقة ضيقة جداً، ولذلك فنحن غير موافقين ولم نوقّع على هذا القرار".
وتعود الخلافات العميقة بين مكوّنات الجبهة إلى ما بعد اغتيال شكري بلعيد (أحد أبرز قيادات الوطد)، وبرزت بشكل واضح بين زوجته وحمّة الهمامي. وأيضاً إلى ما بعد انتخابات 2014، حين تمكّنت الجبهة من تحقيق نتيجة إيجابية تمثّلت في الحصول على 16 مقعداً نيابياً، ورأت بعض قيادات "الوطنيين الموحد" أنه ينبغي دعم السبسي ضد المرزوقي، ولكن بقية المكوّنات رفضت ذلك والتزمت الحياد في معركة لا تعنيها.
ومع تشكيل حكومة الحبيب الصيد، اقتُرح على "الوطنيين الموحد" الانضمام إليها، ولكن بقية المكوّنات رفضت ذلك أيضاً، ما خلق خلافاً كبيراً وجوهرياً بين خيار براغماتي يعتقد أنه ينبغي المشاركة وعدم البقاء خارج السلطة، وآخر يرى عكس ذلك.
وحتى مع الخلاف الأخير هذه الأيام، اصطف شباب الجبهة بين من اتهم "الوطنيين الموحد" بتوجيه الجبهة إلى اليمين، في حين اعتبر آخرون أن الأحزاب اليسارية ينبغي أن تتطور وتنزل إلى ساحة الممارسة السياسية اليومية بعيداً عن التنظير الذي يقود إلى الإقصاء والتهميش وإبقاء اليسار دائماً في موقع المتفرج الذي لا يزيد تأثيره في القرار السياسي عن أي جمعية مدنية.
ومن المتوقع أن تترك تداعيات هذا الصراع وعمق الاختلافات آثاراً بليغة على العائلة اليسارية، حتى وإن تمكّنت من تجاوز هذه الأزمة مرحلياً، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن حلم اليسار الكبير الذي دعت إليه الزعامات اليسارية يبقى مطلباً بعيداً جداً عن التحقق في الوقت الراهن.
اقــرأ أيضاً
وعرفت الجبهة منذ تأسيسها مشاكل عدة بسبب تركيبتها المعقدة (11 حزباً ومكوّناً من مشارب فكرية يسارية متعددة) ولكنها نجحت في كل مرة في تطويقها وتجاوز تداعياتها، غير أن الانتخابات المنتظرة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل عمّقت هذه المشاكل وانتهت إلى توجيه ضربة قوية لهذا الفصيل اليساري، مع تأكيد مصادر من داخلها لـ"العربي الجديد" أن هناك محاولات لتطويقها على الرغم من صعوبة الأمر.
وقدّم عدد من نواب كتلة "الجبهة الشعبية" في البرلمان التونسي استقالاتهم إلى مكتب مجلس النواب، يوم الثلاثاء الماضي، ما يهدد باندثار الكتلة تماماً من المشهد إذا لم يتم إقناعهم بالتراجع في الأيام القليلة المقبلة. وسعت بعض القيادات جاهدة في الساعات الأخيرة لإقناع المستقيلين بالتراجع، وعدم تفكيك الجبهة عشية انتخابات قوية يرى البعض أنها حاسمة في تاريخ تونس، وتعتقد بعض قوى الجبهة أنها تشكّل فرصة كبيرة أمامها بسبب ضعف أداء المنظومة الحالية وسوء نتائجها الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى الرغم من أن الخلاف بدأ بين حزبي "الديمقراطيين الموحد" و"العمال"، إلا أن المستقيلين ينتمون إلى فصائل أخرى، من بينهم رئيس الكتلة أحمد الصديق (من حزب الطليعة العربي)، الذي قال في تصريح لوكالة الأنباء التونسية إنه استقال من رئاسة الكتلة بسبب عدم إيجاد حل للأزمة "التي تعصف بالجبهة الشعبية عموماً"، مؤكداً "ضرورة بذل جهود لرأب الصدع وتجاوز الأزمة، وهذا واجب على كل الأطراف، لأن البلاد ما زالت في حاجة إلى الجبهة الشعبية"، على حد قوله.
من جهته، دعا حزب "القطب" (أحد مكوّنات الجبهة)، القوى التقدمية إلى "المحافظة على وحدتها ورص صفوفها للتصدي للائتلاف الحاكم والقوى الرجعية الصاعدة". وأوصى في بيان له، بمواصلة هذه القوى الاضطلاع بالدور الاحتجاجي والنقدي وبلورة مقترحات وبدائل تستجيب لمصالح الفئات "الشعبية والوسطى". وأضاف أنه عمل جاهداً لتقريب وجهات النظر بين مكوّنات "الجبهة الشعبية"، معرباً عن "الأسف والانزعاج" من استقالة تسعة نواب من كتلة الجبهة في البرلمان.
ولكن هذا الخلاف الجديد بشأن الرئاسيات ليس إلا مجرد سبب أخفى تناقضات فكرية وتكتيكية عديدة بين مختلف مكوّنات الجبهة، على الرغم من أن ظروف المشهد السياسي وتطوراته ساهمت في الحفاظ على وحدة الجبهة من الخارج، من دون أن تلغي أو تنهي هذه الاختلافات الجوهرية القديمة بين الفصائل اليسارية منذ الثمانينيات في الجامعة وقبل الثورة وتأسيس "الجبهة الشعبية".
وكانت بداية الأزمة مع خروج النائب المنجي الرحوي عن تحفّظه وانضباطه السياسي، بحسب اتهام بقية رفاقه في الجبهة، فقال في تصريحات صحافية متتالية إنه في حال بقاء الجبهة على حالها فإنها قد لا تحصل على عدد النواب الذي أحرزته في انتخابات 2014، خصوصاً إذا تغيّر القانون الانتخابي، مجدداً الدعوة إلى حسم المسألة التنظيمية وتطوير هيكلة الجبهة، وطرح مبدأ تغيير الزعامة وإصلاح الجبهة، خصوصاً بعد النتائج المتواضعة التي حققتها في الانتخابات البلدية.
وكان الأمين العام لحزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، القيادي في "الجبهة الشعبية"، زياد لخضر، قد اعتبر أن "هناك أطرافاً في الجبهة الشعبية لا تقبل النقد الذاتي وتريد مواصلة مسار هذا المشروع على الخط نفسه، ونحن لسنا مع هذا، وفي الحقيقة لا نعتبر أن الخلاف حُسم، خصوصاً أن بعض الأطراف ذهبت إلى تشكيل قائمة انتخابية في بلدية باردو من دون مشاورتنا، مصرّة بذلك على إقصائنا، وهذا وجه من أوجه التوتر التي تعيشها الجبهة في الفترة الراهنة". وأضاف في حوار صحافي، أن حزبه رشح المنجي الرحوي "كمقترح للجبهة حتى يمثلها في الانتخابات الرئاسية، بينما الأطراف الأخرى لم توافق على ذلك، ونحن اقترحنا توسيع آلية الاستشارة داخل الجبهة، غير أن بعض الأحزاب اختارت أن تحسم الأمر بطريقة ضيقة جداً، ولذلك فنحن غير موافقين ولم نوقّع على هذا القرار".
ومع تشكيل حكومة الحبيب الصيد، اقتُرح على "الوطنيين الموحد" الانضمام إليها، ولكن بقية المكوّنات رفضت ذلك أيضاً، ما خلق خلافاً كبيراً وجوهرياً بين خيار براغماتي يعتقد أنه ينبغي المشاركة وعدم البقاء خارج السلطة، وآخر يرى عكس ذلك.
وحتى مع الخلاف الأخير هذه الأيام، اصطف شباب الجبهة بين من اتهم "الوطنيين الموحد" بتوجيه الجبهة إلى اليمين، في حين اعتبر آخرون أن الأحزاب اليسارية ينبغي أن تتطور وتنزل إلى ساحة الممارسة السياسية اليومية بعيداً عن التنظير الذي يقود إلى الإقصاء والتهميش وإبقاء اليسار دائماً في موقع المتفرج الذي لا يزيد تأثيره في القرار السياسي عن أي جمعية مدنية.
ومن المتوقع أن تترك تداعيات هذا الصراع وعمق الاختلافات آثاراً بليغة على العائلة اليسارية، حتى وإن تمكّنت من تجاوز هذه الأزمة مرحلياً، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن حلم اليسار الكبير الذي دعت إليه الزعامات اليسارية يبقى مطلباً بعيداً جداً عن التحقق في الوقت الراهن.