تابع التونسيون خلال تسع سنوات بعد ثورتهم، أحداثاً وخلافات كثيرة، وصلت إلى حد المواجهة، كما حصل عامي 2012 و2013 بعد اغتيال الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إضافة إلى سقوط حكومات بعد منحها الثقة وأخرى قبل منحها إياها، واستقالة حكومات في عز ولايتها، وتحالف العلمانيين مع الإسلاميين، والنظام الجديد مع القديم، كما جرّبوا أصحاب الخبرة والتكنوقراط، ومزجوا بين الإثنين، إضافة إلى خلاف المؤسسات المفتوح، بين الرئاسة والحكومة، وبين الحكومة والبرلمان.
ومنذ تشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة ثم انتخاب المجلس التأسيسي ومن بعده أول برلمان ثم الثاني، يتابع التونسيون بشكل مباشر تفاصيل الصراعات السياسية، وأصبحوا يعرفون خلفياتها وأسبابها، وعلى الرغم من اختلافهم حول كل هذا، إلا أنهم يعودون في كل مرة إلى صناديق الاقتراع، مؤمنين بجدوى التغيير عبرها فقط.
وعلى الرغم من صراعات التموقع الحزبي والنهم للسلطة لدى كثيرين، إلا أن الأحداث أثبتت في كل مرة أن النخبة السياسية، على اختلافها، حسمت أمرها نهائياً بحصر هذا الصراع داخل أطره الديمقراطية. وشكّلت وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، ومن قبله اغتيال البراهمي وبلعيد، امتحانات جدية لصلابة الانتقال الديمقراطي في تونس، ونجحت فيها البلاد مرتين بامتياز، وتشبّث خلالهما التونسيون بما توفر لديهم من مؤسسات وقوانين على ثغراتها، حفاظاً على التجربة.
اليوم يشهد التونسيون تجربة جديدة من نوعها، ممثلة في الفراغ الحكومي المتواصل منذ ثلاثة أشهر، على إيقاع متغيرات سياسية فرضتها الانتخابات الأخيرة، ويتحضّر الجميع لكل الفرضيات على الرغم من التهديد بالذهاب إلى انتخابات تشريعية جديدة سابقة لأوانها، قد تعمّق الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية وتعطّل مفاصل الدولة، إلا أنها لن تستهدف التحوّل الديمقراطي الذي تزيد أسسه صلابة يوماً بعد يوم، في ظرف إقليمي صعب ومعقّد لا يسهل شيئاً.
وتعيش الأحزاب التونسية حرب تموقع مستمرة منذ قيام الثورة، بسبب عدم انتهاء عملية الانتقال الديمقراطي وعدم استكمال المؤسسات، وتشرذم العائلات السياسية وتوزعها على أكثر من حزب، وتفاقم الطموحات الشخصية ونزعة الحكم، وعدم صلابة بعض الأحزاب التي وُجدت بسبب ظروف مؤقتة، مثلما حدث مع "نداء تونس".
ومع الانتخابات الأخيرة وما أفرزته من نتائج، زادت الخشية من حدوث تغييرات كبرى على التوازنات الموجودة حتى الآن، خصوصاً مع صعود الرئيس قيس سعيّد وبروز أفكار جديدة في تغيير الدستور وشكل نظام الحكم، ما زاد من حدة هذه الصراعات.
وشكّلت حركة "النهضة" على مدى السنوات التسع الماضية قلب العملية السياسية، ودارت المعارك السياسية معها أو ضدها، غير أن الانتخابات الأخيرة أبرزت لاعبين جدداً وقوى صاعدة، أبرزها "التيار الديمقراطي" الذي ينمو حضوره الشعبي والبرلماني والسياسي شيئاً فشيئاً. وتذهب قراءات إلى التأكيد أن التيار إذا بقي في المعارضة لسنوات أخرى فسيكون مرشحاً ليصبح قوة سياسية كبيرة بإمكانها الفوز بالانتخابات المقبلة، وهو ما يفسر تردد التيار في الدخول في الائتلاف الحكومي وطرحه شروطاً كبيرة تمكّنه من الحفاظ على صورته لدى التونسيين بأنه يقود المعركة الأبرز ضد الفساد. لكنّ رئيس مجلس شورى "النهضة"، عبد الكريم الهاروني، قال الأربعاء في حوار إذاعي، إن التيار لا يمكنه الادعاء بأنه ضد الفساد وهو يضم فاسدين، في محاولة لضرب هذه الصورة وإخراج التيار من حصنه.
كذلك، يبدو لافتاً في صراع الأشهر الأخيرة، تطبيع حزب "تحيا تونس" الذي يقوده يوسف الشاهد مع العائلة الثورية، إذ يشهد "التيار الديمقراطي" تماهياً كبيراً معه، كما لا تجد حركة "الشعب" حرجاً في التعاطي معه، إضافة إلى التقارب الكبير مع الرئيس سعيّد. كما يحضر الحزب في المشاورات الحكومية أساسياً إلى جانب كل هذه القوى، بينما هو سليل "نداء تونس" تماماً. ولطالما وُجّهت إليه اتهامات من المعارضة بالفشل وباستغلال الدولة لأغراض حزبية، غير أن الشاهد أتقن إلى حد الآن لعبة التموقع واللعب على تناقضات الآخرين، وأهمها صراع سعيّد وزعيم "النهضة" راشد الغنوشي.
ورأى المحلل عبد المنعم المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن المشهد البرلماني الحالي يعيش على وقع أغرب سيناريوهات صراع التموقع بسبب عدم تجانس تركيبته والاختلافات العميقة بين مرجعيات مكوّناته، إلى حد التضاد والتنافر، فأغلب الكتل والأحزاب البرلمانية يمينية، من وسط اليمين المحافظ إلى أقصى اليمين بنَفَسٍ اجتماعي، في غياب تام لليسار، وخصوصاً اليسار التقليدي والراديكالي، عن المشهد البرلماني.
وتعيش مكوّنات العائلة البرلمانية صراعاً محموماً من أجل التموقع في المشهد الحكومي المقبل مدفوعة بغريزة البقاء السياسي، فجميع الأطراف تبحث عن موطئ قدم في حكومة الياس الفخفاخ يعزز مكانتها وحضورها في المشهد السياسي العام ويقيها التفكك والتفتت والسياحة الحزبية والبرلمانية التي تتربص بالجميع.
وبحسب المؤدب، فإن الملفت للانتباه أن جميع مكوّنات البرلمان دخلت في صراع الكل ضد الكل، في مشهد سياسي متحرك ينذر بنهاية الحكم البرلماني، غير أن كل الكتل متشبثة بمقاعدها ولكنها تتخذ من قبة البرلمان ساحة للنزال والصراع بعيداً عن أي مؤشر لتقارب برلماني، فـ"الدستوري الحر" لا يضيّع أي فرصة لضرب ومهاجمة غريمه التاريخي حزب "النهضة" و"ائتلاف الكرامة"، و"التيار الديمقراطي" بدوره لا يفوّت أي مناسبة لإبعاد "قلب تونس" ومحاولة إزاحته من التشكيل الحكومي، و"ائتلاف الكرامة" لا يترك مجالاً لتذكير "قلب تونس" بأنه غير مرحب به في المجال الثوري، وحركة "الشعب" تعتبر أن "النهضة" و"تحيا تونس" ليسا أكثر نظافة من "قلب تونس".
اقــرأ أيضاً
ويتناسى البرلمانيون أن مجلسهم مستهدف من خارجه قبل الداخل، لاعتبار أن الأحزاب الخاسرة في الانتخابات تبحث عن فشل المنظومة المنتخبة وتستعد لانتخابات مبكرة من جهة، ومن جهة أخرى من قِبل الأطراف التي تعتقد أن النظام البرلماني المعدَّل الحالي فشل ويجب تعديل الدستور وحل البرلمان والذهاب إلى نظام سياسي جديد، إما رئاسي أو برلماني بالكامل.
واعتبر المؤدب أنه لا خوف على المسار الديمقراطي في تونس ولا على التجربة لأن دعوات التغيير في أقصاها وحتى بفرضية حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، تبقى آليات دستورية مكفولة للتغيير في إطار الشرعية والحلول الديمقراطية لتجاوز الوضع، وليست انقلاباً على الشرعية وفرضاً لسلطة مسقطة على متن الدبابات كما حدث في تجارب أخرى.
هذا الحديث عن إعادة الانتخابات طُرح مع دعوة حركة "النهضة" لحكومة وحدة وطنية لا تقصي أحداً، في إشارة واضحة إلى حزب "قلب تونس" وكتلتي "الإصلاح الوطني" و"المستقبل"، وهي دعوة بمثابة الشرط الذي أعاد "النهضة" إلى وضع الماسك بخيوط اللعبة من جديد بعدما كانت تواجه شبح العزلة إثر سقوط حكومة الحبيب الجملي.
وقال القيادي في "النهضة"، محمد القوماني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ سبب دعوة الحركة لحكومة وحدة وطنية هو أن التحديات كبيرة جداً في ما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية الكبرى ومواجهة قضايا الفقر والإرهاب والجريمة، موضحاً أن التحديات التي تحدث عنها رئيس الحكومة المكلف الياس الفخفاخ تحتاج إلى تعبئة كل الجهود الوطنية، فالفخفاخ لم يأتِ من صناديق الاقتراع وليس له أي تمثيل في البرلمان وعيّنه رئيس الجمهورية على أساس أنه الشخصية الأقدر، وبالتالي فكلما وسّع الفخفاخ دائرة المشاورات سيضمن حزاماً سياسياً يمكّنه من الحصول على التزكيات المطلوبة.
وأضاف القوماني أنّ حركة "النهضة" ستحاول إقناع رئيس الحكومة المكلف بالوحدة الوطنية، ولكن إذا رفض وقرر الذهاب إلى أحزاب دون أخرى فهذا سيعرّض حكومته إلى عدم الحصول على الثقة، وإذا سقطت الحكومة فإن الدستور ينص على انتخابات سابقة لأوانها، ولكن إذا اقتضت الضرورة أن تذهب "النهضة" إلى ذلك فإنها مستعدة، وقد يتشكّل حينها مشهد سياسي جديد.
من جهته، رأى القيادي في "التيار الديمقراطي"، محمد الحامدي، أنّ "النهضة" تناور من أجل تحسين شروط التفاوض، مضيفاً في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الحرص على وجود "قلب تونس" في الحكومة لن يصل بحركة "النهضة" إلى حد عدم التصويت على الحكومة، بمعنى أنها غير جادة في إعادة الانتخابات لأن لا وجود لأي طرف قادر حالياً على تحمّل كلفة وتبعات إضاعة مزيد من الوقت على تونس.
ولفت الحامدي إلى أنّه لا يوجد أي حزب ضامن لنتائج الانتخابات إذا أُعيدت وكل ما يحصل هي مجرد تخمينات حول المقاعد التي قد يحصل عليها كل طرف، مشدداً على أنّ تونس لا تتحمّل مزيداً من التأخير، والتخوّفات من "التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب" غير مبرّرة، أما مطالبتهما ببعض الوزارات فتندرج في إطار تقاسم الوزارات لأنّ الحكومة سياسية وبالتالي كل حزب يحاول الحصول على مطالبه في إطار النقاش والمرونة، وهناك وزارات لبعض الأحزاب ووزارات أخرى مستقلة، وبالتالي لا استهداف لحركة "النهضة".
واعتبر أنّ محاولات التموقع في المشهد السياسي أمر مشروع، وما تقوم به "النهضة" حالياً جزء من التمرين السياسي شرط ألا يهدد الانتقال الديمقراطي، مضيفاً أن الانتخابات المبكرة إهدار للوقت ولكن إذا أصرت "النهضة" على ذلك فتتحمّل مسؤوليتها السياسية، والتيار بدوره لا يخشى الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
وإذا ما نجحت "النهضة" في تصميم هذا التحالف الجديد، فإنها ستدير أغلبية لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها، ستضم 135 نائباً من بين 217 (النهضة بـ54 نائباً وقلب تونس بـ38 نائباً وائتلاف الكرامة بـ20 نائباً والإصلاح بـ15 نائباً والمستقبل بـ8 نواب).
واقترحت كتلة "النهضة" رسمياً تعديل القانون الانتخابي بإدراج عتبة (الحد الأدنى من الأصوات للحصول على مقعد في البرلمان) بـ5 في المئة في الحاصل الانتخابي في كل دائرة انتخابية، بما يجعل نسبة الحسم المقترحة إحدى آليات الحد من التشتت الانتخابي والبرلماني. وعُرض مقترحها على مكتب البرلمان، الثلاثاء الماضي، وأقر استعجال النظر فيها وعرضه على لجنة النظام الداخلي والقوانين الانتخابية لدراسته وإحالته إلى الجلسة العامة للتصويت. ويقتصر مقترح "النهضة" على إدراج العتبة فقط من دون العودة إلى العديد من المقترحات الأخرى بتحسين النظام الانتخابي وشروط الترشح، غير أن القانون الداخلي للبرلمان لا يمنع إدخال تعديلات أخرى خلال المناقشات.
ويحتاج تمرير هذا المقترح أسبوعاً على الأقل بين عمل اللجان والاستماعات، قبل عرضه على الجلسة العامة للمصادقة عليه؛ وهو ما يفترض تصويتاً بالأغلبية المطلقة للبرلمان أي ما لا يقل عن 109 أصوات، وهي الأغلبية المطلوبة لتمرير الحكومة، بما يكشف عن صعوبات في جمع حزام مساند لفكرة رفع العتبة، في وقت شهد البرلمان في المدة السابقة صعوبة في تمرير عتبة بـ3 في المئة، ولكن بقي ذلك المقترح معلقاً في قصر الرئاسة في قرطاج نظراً لعدم إصداره من قبل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
وإذا نجحت "النهضة" في فرض عتبة الخمسة في المئة، فإن التوزيع يجعل من حزب "النهضة" متصدراً بـ83 مقعداً، يليه "قلب تونس" بـ53 مقعداً. وفي حال تطبيق عتبة 10 في المئة فإن "النهضة" بإمكانها تشكيل حكومة بمفردها بـ116 مقعداً يليها "قلب تونس" بـ67 مقعداً. بينما إذا تم تطبيق عتبة بـ3 في المئة فقط، فسيرتفع عدد مقاعد "النهضة" إلى 71 مقعداً، يليها "قلب تونس" بـ47 مقعداً، ثم "ائتلاف الكرامة" بـ19 مقعداً، ثم "الدستوري الحر" بـ19 مقعداً، يليه "التيار الديمقراطي" بـ18 مقعداً، ثم حركة "الشعب" بـ11 مقعداً، ثم "تحيا تونس" بـ10 مقاعد.
ويتضح من هذه الحسابات الأولية أن "النهضة" و"قلب تونس" رابحان إذا أُعيدت الانتخابات بهذه المقاييس الجديدة، إلا أن هناك عاملين أساسيين لا يمكن التحكّم بهما، مزاج الناخب التونسي الذي سيقرر من يعطّل مصالحه بسبب حسابات حزبية لا تهمه كثيراً، وإمكانية دخول قيس سعيّد عبر حزب جديد ينافس في التشريعية بزخم شعبي واضح إلى حد الآن، ولكنه زخم رئاسي قد يختلف كثيراً مع ظروف التشريعية.
ومنذ تشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة ثم انتخاب المجلس التأسيسي ومن بعده أول برلمان ثم الثاني، يتابع التونسيون بشكل مباشر تفاصيل الصراعات السياسية، وأصبحوا يعرفون خلفياتها وأسبابها، وعلى الرغم من اختلافهم حول كل هذا، إلا أنهم يعودون في كل مرة إلى صناديق الاقتراع، مؤمنين بجدوى التغيير عبرها فقط.
وعلى الرغم من صراعات التموقع الحزبي والنهم للسلطة لدى كثيرين، إلا أن الأحداث أثبتت في كل مرة أن النخبة السياسية، على اختلافها، حسمت أمرها نهائياً بحصر هذا الصراع داخل أطره الديمقراطية. وشكّلت وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، ومن قبله اغتيال البراهمي وبلعيد، امتحانات جدية لصلابة الانتقال الديمقراطي في تونس، ونجحت فيها البلاد مرتين بامتياز، وتشبّث خلالهما التونسيون بما توفر لديهم من مؤسسات وقوانين على ثغراتها، حفاظاً على التجربة.
وتعيش الأحزاب التونسية حرب تموقع مستمرة منذ قيام الثورة، بسبب عدم انتهاء عملية الانتقال الديمقراطي وعدم استكمال المؤسسات، وتشرذم العائلات السياسية وتوزعها على أكثر من حزب، وتفاقم الطموحات الشخصية ونزعة الحكم، وعدم صلابة بعض الأحزاب التي وُجدت بسبب ظروف مؤقتة، مثلما حدث مع "نداء تونس".
ومع الانتخابات الأخيرة وما أفرزته من نتائج، زادت الخشية من حدوث تغييرات كبرى على التوازنات الموجودة حتى الآن، خصوصاً مع صعود الرئيس قيس سعيّد وبروز أفكار جديدة في تغيير الدستور وشكل نظام الحكم، ما زاد من حدة هذه الصراعات.
وشكّلت حركة "النهضة" على مدى السنوات التسع الماضية قلب العملية السياسية، ودارت المعارك السياسية معها أو ضدها، غير أن الانتخابات الأخيرة أبرزت لاعبين جدداً وقوى صاعدة، أبرزها "التيار الديمقراطي" الذي ينمو حضوره الشعبي والبرلماني والسياسي شيئاً فشيئاً. وتذهب قراءات إلى التأكيد أن التيار إذا بقي في المعارضة لسنوات أخرى فسيكون مرشحاً ليصبح قوة سياسية كبيرة بإمكانها الفوز بالانتخابات المقبلة، وهو ما يفسر تردد التيار في الدخول في الائتلاف الحكومي وطرحه شروطاً كبيرة تمكّنه من الحفاظ على صورته لدى التونسيين بأنه يقود المعركة الأبرز ضد الفساد. لكنّ رئيس مجلس شورى "النهضة"، عبد الكريم الهاروني، قال الأربعاء في حوار إذاعي، إن التيار لا يمكنه الادعاء بأنه ضد الفساد وهو يضم فاسدين، في محاولة لضرب هذه الصورة وإخراج التيار من حصنه.
كذلك، يبدو لافتاً في صراع الأشهر الأخيرة، تطبيع حزب "تحيا تونس" الذي يقوده يوسف الشاهد مع العائلة الثورية، إذ يشهد "التيار الديمقراطي" تماهياً كبيراً معه، كما لا تجد حركة "الشعب" حرجاً في التعاطي معه، إضافة إلى التقارب الكبير مع الرئيس سعيّد. كما يحضر الحزب في المشاورات الحكومية أساسياً إلى جانب كل هذه القوى، بينما هو سليل "نداء تونس" تماماً. ولطالما وُجّهت إليه اتهامات من المعارضة بالفشل وباستغلال الدولة لأغراض حزبية، غير أن الشاهد أتقن إلى حد الآن لعبة التموقع واللعب على تناقضات الآخرين، وأهمها صراع سعيّد وزعيم "النهضة" راشد الغنوشي.
ورأى المحلل عبد المنعم المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن المشهد البرلماني الحالي يعيش على وقع أغرب سيناريوهات صراع التموقع بسبب عدم تجانس تركيبته والاختلافات العميقة بين مرجعيات مكوّناته، إلى حد التضاد والتنافر، فأغلب الكتل والأحزاب البرلمانية يمينية، من وسط اليمين المحافظ إلى أقصى اليمين بنَفَسٍ اجتماعي، في غياب تام لليسار، وخصوصاً اليسار التقليدي والراديكالي، عن المشهد البرلماني.
وتعيش مكوّنات العائلة البرلمانية صراعاً محموماً من أجل التموقع في المشهد الحكومي المقبل مدفوعة بغريزة البقاء السياسي، فجميع الأطراف تبحث عن موطئ قدم في حكومة الياس الفخفاخ يعزز مكانتها وحضورها في المشهد السياسي العام ويقيها التفكك والتفتت والسياحة الحزبية والبرلمانية التي تتربص بالجميع.
وبحسب المؤدب، فإن الملفت للانتباه أن جميع مكوّنات البرلمان دخلت في صراع الكل ضد الكل، في مشهد سياسي متحرك ينذر بنهاية الحكم البرلماني، غير أن كل الكتل متشبثة بمقاعدها ولكنها تتخذ من قبة البرلمان ساحة للنزال والصراع بعيداً عن أي مؤشر لتقارب برلماني، فـ"الدستوري الحر" لا يضيّع أي فرصة لضرب ومهاجمة غريمه التاريخي حزب "النهضة" و"ائتلاف الكرامة"، و"التيار الديمقراطي" بدوره لا يفوّت أي مناسبة لإبعاد "قلب تونس" ومحاولة إزاحته من التشكيل الحكومي، و"ائتلاف الكرامة" لا يترك مجالاً لتذكير "قلب تونس" بأنه غير مرحب به في المجال الثوري، وحركة "الشعب" تعتبر أن "النهضة" و"تحيا تونس" ليسا أكثر نظافة من "قلب تونس".
ويتناسى البرلمانيون أن مجلسهم مستهدف من خارجه قبل الداخل، لاعتبار أن الأحزاب الخاسرة في الانتخابات تبحث عن فشل المنظومة المنتخبة وتستعد لانتخابات مبكرة من جهة، ومن جهة أخرى من قِبل الأطراف التي تعتقد أن النظام البرلماني المعدَّل الحالي فشل ويجب تعديل الدستور وحل البرلمان والذهاب إلى نظام سياسي جديد، إما رئاسي أو برلماني بالكامل.
واعتبر المؤدب أنه لا خوف على المسار الديمقراطي في تونس ولا على التجربة لأن دعوات التغيير في أقصاها وحتى بفرضية حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، تبقى آليات دستورية مكفولة للتغيير في إطار الشرعية والحلول الديمقراطية لتجاوز الوضع، وليست انقلاباً على الشرعية وفرضاً لسلطة مسقطة على متن الدبابات كما حدث في تجارب أخرى.
هذا الحديث عن إعادة الانتخابات طُرح مع دعوة حركة "النهضة" لحكومة وحدة وطنية لا تقصي أحداً، في إشارة واضحة إلى حزب "قلب تونس" وكتلتي "الإصلاح الوطني" و"المستقبل"، وهي دعوة بمثابة الشرط الذي أعاد "النهضة" إلى وضع الماسك بخيوط اللعبة من جديد بعدما كانت تواجه شبح العزلة إثر سقوط حكومة الحبيب الجملي.
وقال القيادي في "النهضة"، محمد القوماني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ سبب دعوة الحركة لحكومة وحدة وطنية هو أن التحديات كبيرة جداً في ما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية الكبرى ومواجهة قضايا الفقر والإرهاب والجريمة، موضحاً أن التحديات التي تحدث عنها رئيس الحكومة المكلف الياس الفخفاخ تحتاج إلى تعبئة كل الجهود الوطنية، فالفخفاخ لم يأتِ من صناديق الاقتراع وليس له أي تمثيل في البرلمان وعيّنه رئيس الجمهورية على أساس أنه الشخصية الأقدر، وبالتالي فكلما وسّع الفخفاخ دائرة المشاورات سيضمن حزاماً سياسياً يمكّنه من الحصول على التزكيات المطلوبة.
وأضاف القوماني أنّ حركة "النهضة" ستحاول إقناع رئيس الحكومة المكلف بالوحدة الوطنية، ولكن إذا رفض وقرر الذهاب إلى أحزاب دون أخرى فهذا سيعرّض حكومته إلى عدم الحصول على الثقة، وإذا سقطت الحكومة فإن الدستور ينص على انتخابات سابقة لأوانها، ولكن إذا اقتضت الضرورة أن تذهب "النهضة" إلى ذلك فإنها مستعدة، وقد يتشكّل حينها مشهد سياسي جديد.
ولفت الحامدي إلى أنّه لا يوجد أي حزب ضامن لنتائج الانتخابات إذا أُعيدت وكل ما يحصل هي مجرد تخمينات حول المقاعد التي قد يحصل عليها كل طرف، مشدداً على أنّ تونس لا تتحمّل مزيداً من التأخير، والتخوّفات من "التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب" غير مبرّرة، أما مطالبتهما ببعض الوزارات فتندرج في إطار تقاسم الوزارات لأنّ الحكومة سياسية وبالتالي كل حزب يحاول الحصول على مطالبه في إطار النقاش والمرونة، وهناك وزارات لبعض الأحزاب ووزارات أخرى مستقلة، وبالتالي لا استهداف لحركة "النهضة".
واعتبر أنّ محاولات التموقع في المشهد السياسي أمر مشروع، وما تقوم به "النهضة" حالياً جزء من التمرين السياسي شرط ألا يهدد الانتقال الديمقراطي، مضيفاً أن الانتخابات المبكرة إهدار للوقت ولكن إذا أصرت "النهضة" على ذلك فتتحمّل مسؤوليتها السياسية، والتيار بدوره لا يخشى الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
وإذا ما نجحت "النهضة" في تصميم هذا التحالف الجديد، فإنها ستدير أغلبية لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها، ستضم 135 نائباً من بين 217 (النهضة بـ54 نائباً وقلب تونس بـ38 نائباً وائتلاف الكرامة بـ20 نائباً والإصلاح بـ15 نائباً والمستقبل بـ8 نواب).
واقترحت كتلة "النهضة" رسمياً تعديل القانون الانتخابي بإدراج عتبة (الحد الأدنى من الأصوات للحصول على مقعد في البرلمان) بـ5 في المئة في الحاصل الانتخابي في كل دائرة انتخابية، بما يجعل نسبة الحسم المقترحة إحدى آليات الحد من التشتت الانتخابي والبرلماني. وعُرض مقترحها على مكتب البرلمان، الثلاثاء الماضي، وأقر استعجال النظر فيها وعرضه على لجنة النظام الداخلي والقوانين الانتخابية لدراسته وإحالته إلى الجلسة العامة للتصويت. ويقتصر مقترح "النهضة" على إدراج العتبة فقط من دون العودة إلى العديد من المقترحات الأخرى بتحسين النظام الانتخابي وشروط الترشح، غير أن القانون الداخلي للبرلمان لا يمنع إدخال تعديلات أخرى خلال المناقشات.
ويحتاج تمرير هذا المقترح أسبوعاً على الأقل بين عمل اللجان والاستماعات، قبل عرضه على الجلسة العامة للمصادقة عليه؛ وهو ما يفترض تصويتاً بالأغلبية المطلقة للبرلمان أي ما لا يقل عن 109 أصوات، وهي الأغلبية المطلوبة لتمرير الحكومة، بما يكشف عن صعوبات في جمع حزام مساند لفكرة رفع العتبة، في وقت شهد البرلمان في المدة السابقة صعوبة في تمرير عتبة بـ3 في المئة، ولكن بقي ذلك المقترح معلقاً في قصر الرئاسة في قرطاج نظراً لعدم إصداره من قبل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
وإذا نجحت "النهضة" في فرض عتبة الخمسة في المئة، فإن التوزيع يجعل من حزب "النهضة" متصدراً بـ83 مقعداً، يليه "قلب تونس" بـ53 مقعداً. وفي حال تطبيق عتبة 10 في المئة فإن "النهضة" بإمكانها تشكيل حكومة بمفردها بـ116 مقعداً يليها "قلب تونس" بـ67 مقعداً. بينما إذا تم تطبيق عتبة بـ3 في المئة فقط، فسيرتفع عدد مقاعد "النهضة" إلى 71 مقعداً، يليها "قلب تونس" بـ47 مقعداً، ثم "ائتلاف الكرامة" بـ19 مقعداً، ثم "الدستوري الحر" بـ19 مقعداً، يليه "التيار الديمقراطي" بـ18 مقعداً، ثم حركة "الشعب" بـ11 مقعداً، ثم "تحيا تونس" بـ10 مقاعد.
ويتضح من هذه الحسابات الأولية أن "النهضة" و"قلب تونس" رابحان إذا أُعيدت الانتخابات بهذه المقاييس الجديدة، إلا أن هناك عاملين أساسيين لا يمكن التحكّم بهما، مزاج الناخب التونسي الذي سيقرر من يعطّل مصالحه بسبب حسابات حزبية لا تهمه كثيراً، وإمكانية دخول قيس سعيّد عبر حزب جديد ينافس في التشريعية بزخم شعبي واضح إلى حد الآن، ولكنه زخم رئاسي قد يختلف كثيراً مع ظروف التشريعية.