الانتخابات البلدية في فرنسا: استفتاء سحب الثقة من الحكومة

15 مارس 2020
تتقدم مرشحة "الجمهوريون" رشيدة داتي الاستطلاعات بباريس(فيليب لوبيز/فرانس برس)
+ الخط -


ليست الانتخابات البلدية الفرنسية، التي تجري دورتها الأولى اليوم الأحد والثانية في 22 مارس/آذار الحالي، مجرّد استحقاق محلي لتنظيم الحياة الإدارية في البلدات والمدن فحسب، بل تحوّلت إلى استحقاق سياسي من الدرجة الأولى، خصوصاً أنها تأخذ هذه المرة ملامح تصويت على سياسات رئيس البلاد إيمانويل ماكرون، وإصلاحاته التي لا تلقى ترحيباً شعبياً واسعاً، باعتبارها أول انتخابات فرنسية داخلية منذ 2017، وهو ما يجعل من نتائجها مؤشراً جديّاً على شعبية الأغلبية الحاكمة وحظوظ ماكرون في انتخابات 2022 الرئاسية. وعلى الرغم من أن دوافع التصويت في الانتخابات المحلية لا تأخذ عادةً في الحسبان خطط الحكومة، إلا أن عموم المناطق الفرنسية تبدو معنيةً أكثر من أي وقت مضى بسياسة الحكومة، خصوصاً أن السلطة أدخلت تغييرات و"إصلاحات" في مختلف مجالات حياة المواطنين، من أنظمة العمل والضرائب والتعليم والصحة والبحث العلمي، إلى رفع أسعار المحروقات ومساهمات الضمان الاجتماعي، وليس انتهاء بفرض نظام تقاعدي جديد، لم تفرغ الشوارع بعد من التظاهر ضده.

يؤذن هذا الجو الرافض لسياسات الحكومة بتحوّل الانتخابات البلدية إلى فرصة لـ"تصويت عقابي" للأغلبية الحاكمة التي يقودها حزب "الجمهورية إلى الأمام". ففي حين أظهر استطلاع لمعهد "أودوكسا"، نشره نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، توجّه كل 3 من 10 فرنسيين للتصويت ضد الحزب الحاكم عقاباً له على سياسته، يرى مراقبون أن هذا التوجّه في ازدياد، خصوصاً بعد لجوء الحكومة إلى المادة 49-3 من الدستور لتمرير قانون التقاعد الجديد. وتزيد من هذا التوجّه دعوة بعض أطراف المعارضة إلى أن يكون هذا الاستحقاق، انتخابات "سحب ثقة" من الحكومة.

تداعيات كورونا
مع انتشار فيروس كورونا في فرنسا، بدأت تُطرح جدياً تساؤلات حول إمكان إجراء الانتخابات البلدية في موعدها. وسعت الحكومة الفرنسية منذ أيام لقطع الشك باليقين، بالتأكيد مراراً أنها لن تؤجل هذا الاستحقاق، قبل أن يعلن الرئيس إيمانويل ماكرون، في كلمة متلفزة مساء الخميس، أنه "ليس هنالك ما يمنع الفرنسيين، حتى الأكثر ضعفاً منهم، من التوجّه إلى صناديق الاقتراع"، مشدداً على "أهمية ضمان استمرارية حياتنا الديمقراطية وحياة مؤسساتنا".

لكنّ هذا لا يعني أن الانتخابات لن تتأثر بهستيريا كورونا الجماعية، بل على العكس، فقد ظهرت سريعاً انعكاسات لانتشار هذا الفيروس. وأعلنت بعض البلديات اتخاذ تدابير خاصة لتقليص المخاطر وطمأنة الناخبين، كما هو حال مولوز (شرق)، إحدى بؤر الفيروس في البلاد. في كلمة لها، شرحت عمدة المدينة ميشيل لوتز، خطة بلديتها الوقائية: "تطهير آلات التصويت بعد كل استخدام؛ إتاحة جل مطهّر لليدين عند مدخل ومخرج مراكز الاقتراع؛ زيادة تعداد موظفي البلدية المفروزين لخدمة مراكز الاقتراع".

لكن هل ستكفل تدابير كهذه مشاركة "طبيعية" للناخبين الفرنسيين؟ يبدو ذلك صعباً. حتى قبل انتشار الفيروس في فرنسا، كان المراقبون يتوقعون انخفاضاً بأعداد الناخبين مقارنة بانتخابات 2014 البلدية (63 في المائة)، التي سجلت حينها أقل نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات البلدية. ويُظهِر أكثر من استطلاع قلة حماسة الشباب البالغين من 18 إلى 25 سنة لهذه الانتخابات، إذ ينوي نحو 33 في المائة منهم فقط المشاركة فيها. وأظهر استطلاع نشره معهد "إيفوب" يوم الجمعة 6 مارس/آذار، أن ما نسبته 28 في المئة من الناخبين قد يمتنعون عن التصويت خشية العدوى بالفيروس. وقال 16 في المئة من هؤلاء إن مخاطر العدوى ستمنعهم "بالتأكيد" من الذهاب للاقتراع، بينما قال 12 في المئة منهم إنهم "غالباً" لن يشاركوا.

وإن كان امتناع الشباب عن التصويت متوقعاً، فإن انخفاض أعداد كبار السنّ من الناخبين يمثل سيناريو غير مألوف، ويزداد واقعيةً يوماً بعد يوم، خصوصاً أن كورونا يهدد حياة هذه الشريحة أكثر من غيرها. حتى أن ماكرون دعا، في زيارة له إلى دار مسنّين قبل أيام، إلى تجنّب زيارتهم في هذه الفترة، حفاظاً على صحتهم.

تقليدياً، يصوّت الفرنسيون الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً بكثافة عالية. في الانتخابات البلدية الأخيرة، بلغت نسبة مشاركتهم 81 في المائة. يبلغ تعداد هذه الشريحة من الفرنسيين أكثر من 13 مليون شخص. أما مزاجهم الانتخابي، فلا تفتأ تُظهره الانتخابات المختلفة في السنوات الماضية: ميل عام إلى اليمين، مع مقاومة ملحوظة لخطاب اليمين المتطرف. ومن شأن امتناع جزء كبير من هذه الشريحة عن التصويت أن يخلط الأوراق، في الجولة الأولى على الأقل، في عدد من المدن التي ينافس فيها اليمين ممثلاً بحزب "الجمهوريون" من دون امتلاك أريحية أمام منافسيه. ينطبق هذا على مدن متوسطة الحجم كنانسي وتور، على سبيل المثال.

تحالفات لحسم النتيجة

تبدو الأغلبية الحاكمة وكأنها تبني حساباتها على أساس تصويت عقابي ضدها. ولجأت إلى الاستعانة بعدد من أبرز وجوهها في الحكومة لإنقاذها في الاستحقاق البلدي، ومنها رئيس الوزراء إدوار فيليب، الذي ترشح على رأس قائمة مشتركة لحزب "الجمهورية إلى الأمام" وحزب "مودم" (وسط) للمنافسة على رئاسة بلدية لوهافر (شمال)، التي كان يشغلها قبل تسلم منصبه الحالي. وإضافة إلى فيليب، هناك 9 وزراء يقومون بهذه المهمة المزدوجة. لكن الملاحظ أن أغلبية القوائم التي يترأسها هؤلاء لا تحمل ألوان "الجمهورية إلى الأمام"، بل تشكّلت تحت تصنيفات مختلفة، كـ"تجمّع وسط" أو "أحزاب يمين متفرقة"، وهي قوائم تُقدّم نفسها بوصفها "مدعومة" من قبل "الجمهورية إلى الأمام" وأحد الأحزاب الشريكة من الوسط أو من اليمين. ويبدو أن الحزب الحاكم، يريد عبر هذه الاستراتيجية، ضرب عصفورين بحجر واحد: أولاً، استغلال توجّه أكثر من فرنسي من أصل اثنين، بحسب إحصائية لشركة "إيلاب"، لاختيار رئيس بلدية لا يحمل تصنيفاً حزبياً محدداً، وثانياً تقديم مرشحين من الأغلبية الحاكمة من دون إعلان ذلك أمام جمهور ناقم عليها ويهاجم أحياناً مقرات مرشحيها الانتخابية، كما جرى مع مقرّ ألان فونتانيل، مرشحها في ستراسبورغ.

لكن منطق عقد التحالفات والدعم لا يتوقف على الأغلبية الحاكمة وحدها، بل يشمل غالبية الأطراف السياسية. ويبدو أن القول الفصل في هذه الانتخابات سيكون للتحالفات، فيما يظهر المشهد السياسي مشتتاً أكثر من أي وقت مضى، مع خروج اللعبة الانتخابية من صيغة المواجهة بين يمين ويسار تقليديين، وتوزّعِ قسم كبير من جماهيرهما على أحزاب صاعدة، كحزب "الخضر" وحزب "فرنسا الأبيّة" (la france insoumise) والحزب الرئاسي، أو حتى على "التجمّع الوطني" اليميني المتطرف.

ويبدو أن هذا التشتت يشمل الناخبين أيضاً. إذ أظهر استطلاع نشرته "أودوكسا" و"دينتسو كونسولتينغ" نهاية فبراير/شباط الماضي، أن أقلّ من فرنسي من أصل اثنين يعرف لمن سيصوّت. وبالفعل، فالمشهد يدعو للحيرة، في وقت لم تعد فيه بعض الأفكار حكراً على حزب معين. إذ تشترك أحزاب اليمين المتطرف والوسط واليمين، وبعض اليسار، في الاستثمار انتخابياً بأسئلة الأمن والهجرة، في حين لم تعد المسألة البيئية والمناخية برنامج حزب "الخضر" وحده، بل صارت تتصدر الصفحات الأولى من برامج الكثير من المرشحين، باختلاف مشاربهم. لكنّ استراتيجية التبنّي العام هذه لبعض الأفكار، بهدف جذب الأصوات، لا تمرّ على أغلب الناخبين، ولا تعني أن الناخبين ذوي الحساسية اليسارية قد يصوّتون لمرشح يميني لمجرد أنه يضع المسألة البيئة بين أولوياته، إذ تبدو هجرة الناخبين من حزب إلى آخر محكومة بمنطق القرب.

استراتيجية الأحزاب
يدخل الحزب الحاكم، "الجمهورية إلى الأمام"، هذه الانتخابات ويده على قلبه، خوفاً من تصويت عقابي. العقاب قد يكون مزدوجاً: عن ولاية رئاسية لا تفتأ تؤلّب الفرنسيين ضدها، وعن استخدام المادة 49-3 من الدستور، قبل أيام، لتمرير قانون التقاعد الجديد من دون تصويت. لاقى استخدام هذه المادة معارضة واسعة وصلت إلى صفوف الحزب نفسه، الذي انسحب منه أربعة أعضاء. ويزيد من تعثر الحزب ضعف حظوظ مرشحته الجديدة في باريس.

في المقابل، قد يكون "الخضر" أكبر الرابحين في هذه الانتخابات. يدخلها وفي جعبته مدينة وحيدة متوسطة الحجم، هي غرونوبل (جنوب شرق)، وقد يخرج منها فائزاً في عدد من المدن الكبرى، مثل ستراسبورغ ومونبلييه وحتى ليون، هذا فضلاً عن عشرات الدوائر التي تبدو الأفضلية فيها له. وعلى الرغم من بعض المشاكل الداخلية، يستفيد الحزب من التفات جزء كبير من جمهور اليسار الخائب إليه، في وقت تعيش فيه فرنسا "صحوة" بيئية ومناخية متزايدة. لكن نجاح "الخضر" متعلق، على الرغم من ذلك، بدعم بقية أحزاب اليسار له.

وبات "الخضر" يحمل شعلة اليسار بعد نجاحه التاريخي (أكثر من 13 في المائة) في الانتخابات الأوروبية الأخيرة التي جرت العام الماضي، ومع تعثّر "الحزب الاشتراكي" منذ سنوات، وتناقص دينامية "فرنسا الأبية" منذ انتخابات 2017 الرئاسية وضمور الحزب الشيوعي الفرنسي. ويتوقّع مراقبون تحقيق "الخضر" نتائج جيدة في هذه الانتخابات، حتى في بعض المدن الكبرى، إذا ما وقف اليسار وراءه وتحالف معه.

ودعا عضو الحزب والنائب الأوروبي عنه، يانيك جادو، في حوار مع "لوجورنال دو ديمانش" أخيراً، الشباب إلى استغلال فرصة الانتخابات البلدية والتصويت لحزب يأخذ على عاتقه "إيجاد حلول ملموسة وذات مصداقية للمشاكل على المستوى المحلي". وهو خطاب يلقى اليوم صدى لدى شريحة من الشباب الذي يعزف بشكل عام عن التصويت. كما يستفيد "الخضر" من التحاق جزء من جمهور اليسار اليائس به. ومن موقع قوته هذا بين أحزاب اليسار، يُقدّم "الخضر" نفسه بوصفه "البديل الحقيقي لحزب التجمّع الوطني في الانتخابات البلدية". في المقابل، يعرف "الحزب الاشتراكي"، ومعه بقية أحزاب اليسار التقليدية، واحدةً من أسوأ المراحل في تاريخها. بالتأكيد، لا يزال لدى الحزب عدد من المعاقل المهمة شبه المضمونة، مثل ليل ونانت، لكن مصيره، ومصير اليسار، في هذه الانتخابات، يرتبط بتحالفات مع حزب "الخضر"، الذي يبدو أنه استلم شعلة اليسار.

لكن المنافس الحقيقي لـ"الخضر"، في أغلب المدن التي ينافس فيها، ليس "التجمّع الوطني" المتطرف، بل أحزاب اليمين، وفي مقدمتها "الجمهوريون". يدخل الأخير الانتخابات آملاً في فتح صفحة جديدة بعد التعثر التاريخي خلال الانتخابات الأوروبية، ومحاولاً استغلال وجوده على رأس أكثر من نصف البلديات التي يزيد عدد سكانها على 30 ألف نسمة. وكان اليمين قد انتزع أكثر من 100 بلدية من أحزاب يسارية في انتخابات 2014، ويتوقع محللون أن يعيد الكرّة في هذه الانتخابات.

ويملك اليمين عدداً من المقومات التي تسمح له بالنهوض هذه المرة. فهو صاحب الأغلبية الحالية في البلديات الفرنسية، إذ حصل في 2014 على أكثر من 45 في المائة الأصوات. ثانياً، تتوقع الاستطلاعات محافظته على عدد من المدن الكبرى، الأكثر ثقلاً، خصوصاً في جنوب البلاد، مثل تولوز ونيس وربما مرسيليا، إضافة إلى بوردو. ويضاف إلى هذا تقدّمه الاستطلاعات في باريس، بفضل مرشحته رشيدة داتي.

أما حزب "التجمّع الوطني" اليميني المتطرف، الذي يغيب عن المعركة الانتخابية من أكثر من نصف المدن الكبرى، فيحاول التعويض عن النقص في كوادره باستغلال النقاش الدائر حالياً حول الهجرة عبر ربط القضية بمسألة الأمن، التي عادةً ما تلعب دوراً في حسابات الانتخابات المحلية. وليس غريباً أن تكون أغلب البلديات التي يديرها الحزب واقعة على أطراف فرنسا وقريبة من الحدود. وتتمثّل القاعدة الصلبة للحزب بالمدن الصغرى، ويبدو أنه متوجّه لزيادة حصته منها في هذه الانتخابات. وهو يضع عينه على مدينتين مهمّتين، أولاهما بربينيان (أكثر من 120 ألف نسمة)، التي يظهر استطلاع تقدم مرشحه فيها بأريحية، والثانية مرسيليا، التي يتأخر مرشحه فيها بنقطة واحدة عن مرشح "الجمهوريون". لكنّ طبيعة النظام الانتخابي، المتمثل بانتخابات مصغّرة في قطاعات المدينة الثمانية، قد تعيق حلم الحزب بانتزاع مدينة أساسية كمرسيليا، وتجعله يكتفي ببربينيان، التي ستصبح، في حال انتزعها من اليمين، أكبر المدن التي يديرها اليمين المتطرف في فرنسا.

دلالات