لكن على الرغم من تراجع حدة الخلافات، إلا أن إطالة أمد الوباء أحبطت خطة موسكو لاستضافة عدد من قادة الدول الكبرى، بمن فيهم الرئيسان الصيني شي جين بينغ، والفرنسي إيمانويل ماكرون، أثناء الاحتفالات بذكرى مرور 75 سنة على النصر على ألمانيا النازية، في 9 مايو/أيار المقبل. كما أن عقد قمة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن في نيويورك، والتي دعا إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باتت على المحك في الظروف الراهنة.
ويعتبر الخبير في العلاقات الدولية، فلاديمير فرولوف، أن أي أزمة لا تحبط الخطط السابقة فحسب، وإنما تخلق أيضاً فرصاً جديدة، بما فيها "التصفير العام" للخلافات، الذي تراهن عليه السياسة الخارجية الروسية، على ضوء آمال موسكو في إلغاء العقوبات المفروضة عليها بسبب الوضع في أوكرانيا. ويقول فرولوف، لـ"العربي الجديد" إن "روسيا تعتبر أن جائحة كورونا هي حرب عالمية جديدة ستؤدي، شأنها في ذلك شأن الحربين العالميتين السابقتين، إلى كسر النظام العالمي القديم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والغرب الليبرالي، مشكّلة نظاماً صامداً جديداً ستحدد قواعده الدول الخمس الكبرى. وبالطبع، يجب ألا يكون هناك مكان للعقوبات في النظام العالمي الجديد، كونها تعرقل التعامل مع التهديد الذي تواجهه البشرية كلها".
وعلى الصعيد الاقتصادي، دفع تهاوي أسعار النفط إلى 22 دولاراً فقط للبرميل، نهاية مارس/آذار الماضي، نتيجة لتراجع غير مسبوق للطلب وانهيار اتفاق "أوبك+"، بكبار المنتجين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وروسيا والسعودية، إلى الحوار وإبداء مرونة أكبر في المفاوضات حول حجم خفض الإنتاج، والذي قد يصل إلى 20 مليون برميل يومياً اعتباراً من مايو المقبل. ويعلق فرولوف على مكاسب موسكو من الاتصالات الثلاثية الروسية السعودية الأميركية، موضحاً أن "تدخل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الخلاف النفطي أتاح فرصة للكرملين لاستئناف الحوار مع السعودية، مع حفظ ماء الوجه، عن طريق تحويل النقاشات إلى الإطار الثلاثي، بمشاركة العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، لا ولي العهد محمد بن سلمان، الذي تدهورت علاقة بوتين معه بعد انهيار اتفاق أوبك+ في 6 مارس/آذار الماضي. وساعد دخول ترامب على الخط موسكو في إخفاء الطابع الاضطراري للصفقة الجديدة".
ويعتبر مدير مركز "كارنيغي" في موسكو، دميتري ترينين، أن الأزمة الناجمة عن جائحة كورونا لا تغير العالم في حد ذاته، بقدر ما تعزز العمليات التي قد انطلقت قبلها نحو تغيير النظام العالمي، وأبرزها احتدام التنافس الأميركي الصيني وقيام نظام جديد ثنائي القطبين. وفي مقال بعنوان "كيف تحافظ روسيا على التوازن في العالم ما بعد الأزمة؟"، نشر على موقع مركز "كارنيغي"، يشير ترينين إلى أن أزمة كوفيد-19 أكدت الخطوط العريضة للسياسة الخارجية للكرملين في السنوات الأخيرة، بما فيها الدور الرائد للدولة على الساحة الدولية، وإعلاء سيادة الدولة فوق أيٍّ من الاتفاقات والمنظمات الدولية، والأهمية القصوى لصمود الاقتصاد والمجتمع أمام التحديات الخارجية وغيرها.
أما التوجهات الرئيسية للعلاقات الدولية التي تعززها الأزمة الراهنة، فيلخصها كاتب المقال في ابتعاد الولايات المتحدة تدريجياً عن القيادة العالمية إلى التركيز على تعزيز قاعدتها الوطنية الخاصة، وإضعاف الاتحاد الأوروبي الذي يظهر عجزاً عن التصدي الفعال للأزمات، وتعميقاً للخلافات بين الدول الأعضاء، وتحوّل بكين نحو السياسة الخارجية النشيطة وصعود النزعة القومية داخل الصين نفسها. ويتوقع ترينين أن تسفر الأزمة عن استمرار تعزيز مواقع الصين وغيرها من بلدان شرق آسيا، التي أظهرت فاعلية أكبر في مكافحة فيروس كورونا، ومستوى أعلى من التضامن الاجتماعي والتعاون بين السلطات والمواطنين، مقارنة بالمجتمعات في أوروبا وأميركا الشمالية.
ويرى الباحث الروسي أن "ثنائية القطبين المرتقبة تشكل التحدي الأكبر أمام السياسة الخارجية الروسية للعقود المقبلة، إذ لا يمنح التحول إلى العدو رقم 2 روسيا أياً من المزايا، في ظل استمرار عداوة النخبة الأميركية الحاكمة لموسكو، وعدم استعداد واشنطن حتى للحوار، فماذا بالنسبة إلى تقديم تنازلات؟". وعلى الرغم من إقراره بأن التقارب مع الصين في ظروف المواجهة مع الولايات المتحدة ساعد روسيا في تعزيز مواقعها الجيوسياسية والجيواقتصادية، إلا أن ترينين يحذر من أن روسيا قد تتحول إلى ملحق للقطب الصيني، ما لم تطور علاقاتها مع كبار اللاعبين الآخرين، بمن فيهم أوروبا واليابان والهند. وبالعودة إلى العلاقات الروسية الأميركية، يخلص ترينين إلى أن تكثيف الاتصالات بين بوتين وترامب لن يؤدي إلى تحسن جذري في العلاقات الروسية الأميركية في المستقبل المنظور، كون المواجهة ذات طابع منهجي.