وقد وجدت أحزاب فبراير، التي انبثقت من الحراك، في مسوَّدة الدستور الجديد محطة سانحة لطرح مواقفها وإعادة تصدير نفسها كقوى معبرة عن الحراك وتطلعاته، فضلاً عن تجديد المطالبة باعتمادها وبحقها في المشاركة السياسية. لكن اللافت أن كل هذه القوى وجدت المسوَّدة بعيدة عن الاستجابة لمطالب الحراك وتطلعات الجزائريين، وسجلت بشأنها جملة واسعة من التحفظات عزتها إلى غياب الشفافية وغموض مسار صياغة وإقرار التعديل الدستوري وطالبت بسحب المسوَّدة.
وأصدرت "حركة عزم"، أبرز الأحزاب السياسية التي انبثقت من حراك فبراير، تقدير موقف يتضمن اعتراضات على مضمون المسوَّدة، ووصفته بأنه "لا يرقى إلى درجة مناقشته بالنظر إلى ما حمله من تناقضات ومضامين غير بريئة". وأشارت الحركة إلى أن طريقة صياغة السلطة لمسوَّدة تعديل الدستور ومضمونه عرجاء، و"يطغى عليها الغموض والإبهام في كثير من تفاصيله ومخرجاته، ويدل على أن السلطة انتهجت النهج الخطأ واتخذت غير سبيل الرشد، وليست الملامح الأولى للرفض الشعبي لهذه المسوَّدة إلا نتيجة منطقية لمسار أعرج".
وطالبت الحركة، المحسوبة على التيار المحافظ، بالشفافية وإشراك كل ممثلي الشعب الجزائري بكل مكوناته في أي مسار لصياغة الدستور، وتساءلت عن خلفيات عدم نشر السلطة "التي ألحّت في أكثر من مرة على ضرورة إشراك الشعب في كل مراحل التعديل، لنسخة رقمية لمسوَّدة الدستور موجّهة إلى الشعب الجزائري وتسهّل عليه الاطلاع عليها". كذلك اعترضت على مناقشة التعديلات من قبل "البرلمان الحالي الفاقد للشرعية"، واصفةً إياه بأنه "من مخلفات نظام العصابة" وبأنه "لا يُمكن ائتمانه على مناقشة (مسوَّدة) دستور الجزائر الجديد أو التصديق عليه".
وطالبت الحركة الرئاسة الجزائرية بشفافية أكبر، وبكشف الأطراف التي وجّهت إليها السلطة الدعوة للمشاركة في مناقشة المسوَّدة، وكيفية دراسة المقترحات التي ستقدمها مختلف الأطراف، والمهلة الممنوحة لتقديم الانتقادات والاقتراحات وإدراجها في المسوَّدة، وكذلك دور الحركات السياسة الناشئة عن الحراك في صياغة الدستور المرتقب. واعتبرت "حركة عزم" أن "بقاء هذه الأسئلة من دون إجابات واضحة وتوضيحات كافية، يفضي لا محالة إلى التشكيك في المسار الذي اقترحته السلطة، ويعيد إلى الأذهان الأساليب البالية المنتهجة سابقاً في التعامل مع الدستور والشأن السياسي".
بدورها، عبّرت قيادات "التيار الأصيل"، إحدى أبرز الحركات السياسية لحراك فبراير، عن رفض مبدئي لمسوَّدة التعديلات الدستورية بصيغتها الحالية، بسبب تعارضها مع جملة من المحددات الوطنية. ورأت القيادات فيها وثيقة تعيد إنتاج ذات نظام الحكم السابق الذي ثار عليه الجزائريون في فبراير 2019، وهو ما أكده القيادي في التيار، رمزي سعودي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، بقوله إن "طرح مسوَّدة دستور تعيد إنتاج ذات العصبة الحاكمة، سيؤدي إلى نتائج سلبية على الوطن والشعب، وكأننا أمام عملية احتيال متكاملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد". ولفت إلى أن "المسوَّدة بعيدة تماماً عن مطالب الشعب وعن أهداف الحراك الشعبي الأصيل وعن مصلحة الوطن، وتخدم السلطة من دون أن تحقق للشعب الجزائري طموحه في التغيير، ولا تمثل الدستور التشاركي المعبِّر عن توجهات الأغلبية الشعبية".
وطرح سعودي فكرة "سحب المسوَّدة وتسريح اللجنة الدستورية واعتماد آلية جديدة تسمح أولاً بتغيير كل القوانين العضوية والأطر المنظمة للانتخابات، وقانون الأحزاب وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة تتيح انتخاب برلمان ممثل للشعب يتولى الإشراف على النقاش المجتمعي والسياسي لكامل عملية وضع دستور توافقي يعبّر عن الأغلبية الشعبية". ورأى أنه إذا أصرّت السلطة على تمرير المسوَّدة، فإن خيار إطلاق حملة مقاطعة للاستفتاء الشعبي يتيح رفع غطاء الشرعية الشعبية عن الدستور.
ومن أكثر أحزاب حراك فبراير تشدّداً في مسوَّدة التعديلات الدستورية، كان حزب "السيادة الشعبية"، الذي أسّسه معارضون وناشطون سياسيون، بعضهم كانوا يقيمون في الخارج قبل الحراك تحت اسم "الجبهة الشعبية لإنهاء الوصاية الفرنسية في الجزائر"، الذي وصف التعديلات بـ"المستفزة". واتهم القيادي في الحزب، أحمد شوشان، وهو نقيب سابق في الجيش، ومعارض سياسي عاد أخيراً إلى البلاد، في تقدير موقف نشره على صفحة الحزب، اللجنة الدستورية التي يقودها أحمد لعرابة بطرح "مسوَّدة تعديلات مستفزة للأغلبية الساحقة". واعترض على مسألة إرسال الجيش إلى الخارج، بما "يفتح الباب لتوريط الجيش في الصراعات الدولية"، وكذلك غموض تعديلات تخصّ الحريات وحرية المعتقد وتحييد المدرسة، مشيراً إلى أن الدستور يجب أن يُكتب بإرادة الشعب. وأطلق الحزب وسماً على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "الاعتماد لحزب السيادة الشعبية"، لمطالبة السلطات بتمكينه من الاعتماد القانوني للنشاط السياسي.
وإضافة إلى هذه المجموعات السياسية الوليدة بعد حراك فبراير، بدأت "حركة المجتمع الديمقراطي"، التي يقودها المرشح الرئاسي السابق نوي خرشي، بمناقشة التعديلات بنحو تفصيلي، قبل إطلاق موقف نهائي بشأنها. وكان لافتاً أن هذه القوى لم تحصل على المسوَّدة من الرئاسة، ما يعني إقصاءها عن تقديم مقترحاتها وملاحظاتها بشأن المسوَّدة، مع رفض السلطات الجزائرية التعامل مع قوى فبراير، والمماطلة في منحها الاعتماد القانوني للنشاط السياسي، على الرغم من استيفائها كامل الشروط اللازمة في سياق قانون الأحزاب. ويفرض القانون على السلطات اعتماد الحزب الجديد بعد 60 يوماً من تسليم ملف تأسيسه لوزارة الداخلية، كما يحدث هذا التعاطي على الرغم من التعهدات الانتخابية التي أعلنها الرئيس عبد المجيد تبون في إطار سعيه إلى دعم المشاركة السياسية للشباب. وأبدى مراقبون اعتقادهم بأن مماطلة السلطات في اعتماد هذه القوى السياسية، يعود إلى رغبتها في إرجاء ذلك إلى ما بعد تعديل قانون الأحزاب عقب تعديل الدستور.