فرض تفشي وباء كورونا وسيطرته على أجندة الأحداث في كل أنحاء العالم تهدئة الخلافات السياسية في مختلف الدول، مع تأجيل الاجتماعات والمؤتمرات والمواعيد السياسية المهمة، وهو أيضاً ما حصل في تركيا بين حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان والمعارضة بمختلف اتجاهاتها، فتمّ تأجيل المؤتمرات العامة للأحزاب التي كان يفترض أن تحدد سياساتها للفترة المقبلة. لكن الهدنة السياسية في تركيا شهدت خروقات عدة، مع تشكيل ملف التصدي لوباء كورونا ميداناً للمواجهة السياسية، سواء من قِبل حزب "العدالة والتنمية" الحاكم مع حليفه حزب "الحركة القومية"، أو من قبل المعارضة التي حاولت استغلال أي تقصير حكومي للتصويب على السلطة، خصوصاً في ما يتعلق بموضوع الخدمات الصحية وتقديم المساعدات. فبدأت المعارضة حملات عدة لدعم الحاضنة الشعبية، وكسب المزيد من التعاطف والأصوات، في محاولة منها لمواصلة الضغط على حزب "العدالة والتنمية"، الذي خسر في الانتخابات المحلية العام الماضي كبريات المدن التركية، وعلى رأسها إسطنبول والعاصمة أنقرة وإزمير.
وبعد الهدوء النسبي القسري بفعل مواجهة الوباء ودخول الهدنة السياسية حيز التنفيذ، تفجر أول الخلافات مع بدء البلديات التابعة للمعارضة بحملة جمع تبرعات مالية لدعم المحتاجين والعاطلين عن العمل بسبب كورونا، لتسارع وزارة الداخلية إلى إصدار قرار بتجميد الأموال المجمعة، وتحديد جهة واحدة للقيام بهذه الحملة وهي رئاسة الجمهورية. وبدا هذا الأمر احتكاراً من قبل الحزب الحاكم للعمل الإنساني، وهو ما حاولت المعارضة استغلاله بالحديث عن مساعي أردوغان إلى قطع المساعدات الإنسانية، واتجهت إلى القضاء من أجل إلغاء القرارات الصادرة، والذي لم يبتّ بالأمر بعد.
موضوع المستشفيات وسعتها كان أيضاً سبباً آخر للمناكفات، فبعد حديث المعارضة عن نقص في عدد الأسرّة في مستشفيات ولاية أضنة، اندفع رئيس بلديتها المنتمي لحزب "الشعب الجمهوري" المعارض زيدان قارلار، للعمل على تجهيز مستشفى ميداني وبوقت قياسي في صالة رياضية، وتم تسويق الأمر على أن السلطة المحلية التابعة للمعارضة قادرة على توفير الخدمات الصحية بأقل التكاليف وبوقت سريع. ولكن الحكومة أوفدت مندوبين لمعاينة المستشفى الميداني في أضنة، وتبين أنه مجرد تقسيم للمكان من دون توفر أسرة أو أجهزة طبية، ما دفعها لشن هجوم لاذع على المعارضة.
تبع موضوع المستشفيات الميدانية الحديث عن المدن الطبية، وهي مستشفيات كبيرة تستوعب آلاف المرضى، وكانت المعارضة قد انتقدت هذه المدن سابقاً، والتي افتتح العديد منها في أنقرة ومرسين وبورصة، قبل أن يتم تدشين إحداها في إسطنبول قبل أقل من شهر، فاستغل أردوغان الفرصة وأعدّ حزبه مقطع فيديو يظهر انتقاد المعارضة لهذه المدن سابقاً، قبل أن تعود لامتداحها حالياً والإشادة بدورها في مكافحة كورونا، لترد المعارضة بنفي ذلك. ونجح أردوغان عبر تحركه المبكر في مواجهة كورونا على صعيد البلاد، برفع شعبيته المنخفضة لتصل إلى 56 في المائة بعد أن كانت 42 في المائة، في استطلاع للرأي أجري أخيراً.
ولعل أهم وأسخن الجدالات السياسية تمحورت حول الحديث عن محاولة انقلابية جديدة، غذّاها حديث لرئيسة حزب "الشعب الجمهوري" في إسطنبول جانان كافتاني أغلو، التي قالت في مقابلة تلفزيونية إن "حكم أردوغان سينتهي قريباً، إما بالانتحابات أو بطريقة أخرى"، من دون أن توضح كيف، ما فُهم على أنه حديث عن محاولة انقلابية جديدة، وهو ما ألمح إليه أيضاً القيادي في "الشعب الجمهوري" أوزغور أوزل. هذا الأمر عرّض المعارضة لهجوم لاذع من قبل "العدالة والتنمية"، ليضطر "الشعب الجمهوري" لإصدار بيان يؤكد "رفضه أي محاولة انقلابية، وتمسكه بالمسار الديمقراطي طريقاً واحداً للعمل السياسي في تركيا".
انتشار كورونا ساهم أيضاً في خفض بريق الحزبين الجديدين اللذين تشكّلا حديثاً، من رحم "العدالة والتنمية"، وهما حزب "المستقبل" بزعامة رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، وحزب "دواء" لنائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان، ويرى المراقبون أن الحزب الأخير هو الذي يشكل الخطر الأكبر على الحزب الحاكم. ولكن تشكيل الحزب الذي تزامن مع الإعلان عن أول إصابة بكورونا في تركيا، حوّل الأنظار عنه باتجاه الوباء، فلم يأخذ الحزب حصته بشكل كافٍ في وسائل الإعلام للتعبير عن وجهات نظره. بالتالي، التزم الحزبان الجديدان بالهدنة السياسية، مع محاولتهما توجيه انتقادات على الأداء الاقتصادي السلبي لحكومة أردوغان.
وعلى الرغم من أن المناكفات بدت محدودة في الفترة الأخيرة، لكن يبدو أن المرحلة المقبلة ستشتعل سياسياً بشكل أكبر، لا سيما مع بدء ظهور آثار الأزمة الاقتصادية بوضوح على البلاد، جراء انتشار كورونا، مع تدهور جديد للعملة التركية أمام العملات الأجنبية، وظهور الحكومة عاجزة عن التصدي لها، آملة بالانتقال إلى وضع أفضل مع الرفع التدريجي للإجراءات المشددة في مكافحة كورونا، وعودة الحياة اليومية إلى سابق عهدها بافتتاح المراكز التجارية وبعض الفعاليات. وهذه المساحة التي تجيد المعارضة اللعب فيها، خصوصاً أنها تتناول لقمة عيش المواطن، والمواطن التركي يتأثر مزاجه السياسي بشكل كبير بالتأثيرات والحالة الاقتصادية، ما قد يدفع البلاد في الأيام المقبلة لمزيد من السخونة على الصعيد السياسي، وتسقط الهدنة المفروضة بسبب كورونا.