أمضى البرلمان التونسي 3 أيام من دون أن يتوصل للمصادقة على أي من مشاريع القوانين المبرمجة في جدول أعماله، وفي مقدمتها قانونا المحكمة الدستورية وقانون زجر الاعتداء على الأمنيين، ليرضخ في نهاية المطاف لضغط المجتمع المدني الرافض لهذه المبادرات.
وارتبكت الأحزاب البرلمانية أمام رفض المنظمات الحقوقية والنقابية التي عبرت عن غضبها من مضمون مشاريع القوانين، واحتجت أمام البرلمان وفي جميع منابر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فاختارت الكتل البرلمانية الانسياق لنبض الشارع وتأجيل القوانين المعروضة إلى أجل غير معلوم.
وأعلن النائب الثاني لرئيس مجلس الشعب طارق الفتيتي، مساء أمس الخميس قرار إرجاء النظر في مشروعي القانونين المتعلقين بتنقيح وإتمام القانون الأساسي الخاص بالمحكمة الدستورية.
وصوّت 92 نائبا بالموافقة على إرجاء النظر في مقترح القانونين، في المقابل احتفظ نائبان بصوتيهما، من دون تسجيل أي اعتراض، كما تم إرجاء بقية القوانين المطروحة في جدول الأعمال بعد انقضاء 3 أيام لم يتمكن فيها المجلس إلا من إجراء النقاش العام حول المحكمة الدستورية.
وللمرة الثانية يتم فيها تأجيل النظر في القوانين، بسبب عدم توفر النصاب اللازم والأغلبية المطلوبة للتصويت على قانون أساسي (109 أصوات على الأقل)، وبذريعة البحث عن التوافقات بين الكتل رغم مناقشتها سابقا في اللجان وإحرازها موافقة وتصويت الكتل الأغلبية الجديدة المكونة من حزب النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس، من دون اعتبار الموافقة السابعة للكتلة الديمقراطية التي تضم حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب. وتترأس القيادية بحزب التيار سامية عبو لجنة التشريع المكلفة بالقوانين المطروحة.
ودعا وزير العدل محمد بوستة، في رده على النواب خلال الجلسة العامة، رؤساء الكتل النيابية إلى الاتفاق واختيار الأغلبية المطلوبة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، وذلك لتسهيل عملية المرور إلى تشكيل هذه المحكمة.
كما دعا إلى التوافق والابتعاد عن التجاذبات والخلافات والتفكير في مصلحة تونس، بعد تعطل دام أكثر من خمس سنوات من دون التوصل إلى إرساء هذه المحكمة، ما تسبب من آثار سلبية على سير دواليب الدولة.
وقال الوزير إن "تصويت البرلمان على مقترح تعديل قانون المحكمة الدستورية بهدف تيسير انتخاب أعضائها، سيحسب له ولمساهمته في حلحلة معضلة بعث المحكمة الدستورية والمرور إلى تركيزها (تشكيلها)".
واحتدم الخلاف بين النواب الذين تفاعلوا مع احتجاج المجتمع المدني المطالب بالإبقاء على أغلبية الثلثين (145 صوتا) لاختيار أعضاء المحكمة الدستورية، على غرار جميع الهيئات الدستورية، بما يضمن استقلالية الأعضاء عن الأغلبية البرلمانية وعن الأحزاب السياسية، وبين شق برلماني ثانٍ يشاطر المبادرة الحكومية بخفض الأغلبية المطلوبة للتصويت من الثلثين (145 صوتا) إلى أغلبية معززة بثلاثة أخماس (131 صوتا)، وبين رأي ثالث اقترح خفض الأغلبية إلى ما دون ذلك، لتصل إلى الأغلبية المطلقة (109 أصوات) حتى تنتهي معضلة انتخاب الأعضاء الثلاثة المتبقين.
ورافقت الجلسة العامة منذ الثلاثاء الماضي احتجاجات من نشطاء المجتمع المدني، رفعت خلالها شعارات مناهضة للقوانين المطروحة أمام المجلس، والتي اعتبروها تمس الحريات والمكاسب الدستورية التي تحققت للمواطن بعد الثورة.
وقالت نائبة رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أميمة جبنون، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن الرابطة وعدد من المنظمات الشريكة تدين وضع البرلمان لجدول أعمال خلال هذه الفترة يتضمن مناقشة كل المشاريع السالبة للحرية، على غرار مشروع قانون زجر الاعتداء على الأمنيين ومشروع قانون الطوارئ، إلى جانب قوانين غير دستورية كتنقيحات المحكمة الدستورية.
ودعت جبنون، في هذا الصدد، البرلمانيين إلى الاستفاقة والانتباه لهذا النهج الذي توخاه والمبني على العنف وعلى التأسيس لخنق الحريات والتضييق عليها.
وبينت أن الرابطة وعدد من المنظمات نشرت رسالة مفتوحة لرئيس الجمهورية، قيس سعيد، لممارسة صلاحيات النقض ورد القوانين اللادستورية في حال تمسكت الأغلبية البرلمانية بتمريرها.
واستنكرت منظمة البوصلة المختصة في متابعة الشأن البرلماني ومراقبة عمل النواب "إحالة المسألة إلى مكتب مجلس نواب الشعب، ذلك أن إرجاء النظر في المبادرتين حول المحكمة الدستورية لا يستوجب تدخل المكتب، إذ إن أخذ هذا القرار هو من صميم صلاحيات الجلسة العامة عملا بأحكام الفصل 119 من النظام الداخلي، الذي ينص على أنه "عند انتهاء النقاش العام يقرر المجلس بأغلبية أعضائه الحاضرين إما الانتقال إلى مناقشة الفصول على التعاقب أو إعادة المشروع إلى اللجنة أو إرجاء النظر فيه إلى جلسة لاحقة".
ويرى مراقبون أن المجتمع المدني نجح في التأثير في مسار مناقشات القوانين داخل البرلمان من خلال الضغط على الكتل البرلمانية، ما دفعها إلى التريث في المصادقة على القوانين المعروضة، كما أن كتلا وأحزابا غيرت مواقفها بشكل كلي رغم مصادقتها وتمريرها سابقاً للقوانين داخل اللجنة.
واعتبر المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب أنه بعيدا عن محتوى القوانين وفحواها، فإن البرلمان التونسي خسر جولة أخرى أمام ضغط المجتمع المدني الرافض للقوانين المعروضة، ما يؤكد هشاشة النسيج البرلماني وضعف مكوناته مقارنة بالبرلمان السابق.
وأضاف المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الائتلاف البرلماني الجديد (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة) لم ينجح في أول امتحان مشترك رغم إعلانه ذهابه في التصويت على القوانين المعروضة، ما يعكس ضعف التنسيق بينها وانسياقها في مواجهة اختبار الشارع الغاضب.
ولفت المؤدب إلى أن "إرجاء القوانين وترحيلها لا يعني فوز المجتمع المدني، بل يؤجل المعركة إلى موعد آخر، مشيرا إلى أن الائتلاف البرلماني وجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مر، إما المجازفة بالدخول في صراع مفتوح مع المنظمات الوطنية والدولية المؤثرة أو التراجع عن وعودها، فاختارت الهروب بأقل الخسائر الممكنة".