تفضيل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "مواصلة الحوار وتوسيعه في الوقت الراهن" حول أوكرانيا، لاقى اهتمامًا ملحوظًا في واشنطن وكان مادة رئيسية في اللقاءات الصحافية الثلاثة في البيت الأبيض والخارجية و"البنتاغون".
وإن تصريح لافروف في بداية أسبوع يُعتقد أنه مفصلي بما يخص الأزمة الأوكرانية، كان بمثابة "إشارة انفراج" في واشنطن ولو مع التحفظ، برغم مواصلة الإدارة خطاب التحذير من حصول اجتياح روسي "في أي وقت"، حيث رحب "البنتاغون" بـ"اقتراح" لافروف، فيما أعربت الخارجية عن أملها بأن تكون موسكو قد اختارت هذا المسار، وهكذا البيت الأبيض الذي عبّر عن "تفضيله" للخيار الدبلوماسي الذي أكدت عليه الإدارة من جديد مع اعتقادها أن الرئيس بوتين "لم يحسم بعد قراره العسكري".
تعزز هذا الانطباع بتراجع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن تنبئه بوقوع الحرب غدًا الأربعاء، بزعم أن ما قاله في هذا الصدد كان إشارة إلى تقارير صحافية، لكن يبدو أنه سحب توقعه بعد تبرؤ الخارجية الأميركية من المعلومات التي استند إليها في تحديده لموعد الاجتياح .
ما لفت في كلام لافروف أنه جاء مع نهاية جهود دبلوماسية مكثفة لم يبق منها سوى زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز اليوم الثلاثاء لموسكو، والتي سبقتها مكالمة بايدن مع بوتين السبت الماضي. إذ يبدو وكأن لافروف يدعو إلى تمديد وتجديد المساعي الدبلوماسية للبحث عن مخرج.
مثل هذه المبادرة من المستبعد أن يتبرع بها دبلوماسي روسي عتيق ومتمرس مثل لافروف وفي أزمة من هذا العيار، من غير تكليف أو موافقة من الرئيس فلاديمير بوتين المقرر الأول والأخير في الشؤون الخارجية، وخاصة الأمنية منها. والأغلب أن الوزير اختار أن تأتي ملاحظته بصيغة نصيحة ضمنية لتخفي بصمات بوتين فيها.
هنا تحضر أربعة سيناريوهات، الأول، أن بوتين "صرخ أولا" في لعبة العض على الأصابع. وفي هذه الحالة تكون حرب التهويل التي توسلها بحشد الجيوش لخلخلة التماسك بين ضفتي الأطلسي وبالتالي فرض التنازلات، قد فشلت في تحقيق غرضها وبما يستوجب نقل البندقية إلى الكتف الأخرى لتوفير المخرج بأقل الخسائر، خاصة الاقتصادية منها التي تفرض حساباتها إعادة النظر في الخيار العسكري، حيث تعول روسيا على صادرات الطاقة التي تشكل عائداتها نصف موازنة الدولة "5 ملايين برميل نفط و32 مليار متر مكعب من الغاز، يومياً"، وتستورد أوروبا منها 60% إلى 80% تباعاً.
تضاف إلى هذا الاعتبار الخشية من مضاعفات وآثار مثل هذه الخسائر على وضع روسي داخلي، "غير مرحِّب بالنزاع مع أوكرانيا" ومتعب نتيجة تضافر "تداعيات كورونا مع حالة اقتصادية راكدة".
أما السيناريو الثاني، فيتعلق بأن يكون الرئيس بوتين قد حصل على وعود بنيل ما يكفي من "ضمانات" لمطالبه، وبما يقضي بتوسيع طريق الدبلوماسية وتمديد مسيرتها لتأمين الإخراج المناسب لحل الأزمة. ومن الإشارات على ذلك، تصريح الرئيس الأوكراني بأن انضمام بلاده إلى حلف "الناتو كان رغبة لكنه صار حلماً من المستبعد ترجمته".
يشار في هذا السياق، إلى أن عبارة "الباب المفتوح للناتو" قد غابت أخيرا بصورة ملحوظة عن التصريحات الرسمية، بينما ذكرها المتحدث في الخارجية مرة واحدة مع التشديد على أن طلب الانضمام يعود للبلد المعني وليس للحلف. وفي كل حال بات استبعاد دخول أوكرانيا في "الناتو" مسألة مسلّماً بها عموماً في واشنطن ناهيك بأوروبا، وذلك في المدى المنظور أقله.
وبما يتعلق بالسيناريو الثالث، وهو ألا يكون ما صدر عن لافروف سوى محاولة لشراء المزيد من الوقت بهدف استكمال ترتيبات معينة تشكل "ذريعة" لتدخل عسكري روسي، مثل "إعلان قيام حكومة في كييف" تطلب دعم موسكو لها.
أما السيناريو الرابع، فيتعلق بأن تكون الرغبة في استمرار المحادثات غطاء للاستمرار في دوامة حشد القوات الروسية مقابل تعزيز القوات الأميركية و"الناتو" في أوروبا الشرقية والعكس بالعكس. وهي معادلة من شأنها أن تطيل أمد الوضع العسكري المتأهب بانتظار اللحظة الملائمة للقيام "بالاجتياح الذي خطط له بوتين والذي تشير تعزيزاته العسكرية إلى أنه ليس في وارد التراجع عنه" كما يرى المتشددون، خاصة في الكونغرس، حيث عقد مستشار الرئيس جيك سوليفان جلسات خاصة مع قياداته المنقسمة في الموقف، لوضعها في صورة آخر التطورات وللرد على مآخذ المحافظين على سياسة الرئيس بشأن أوكرانيا.
في ظاهره وتوقيته، بدا كلام لافروف وكذلك جرى التعامل معه، كإشارة إلى رغبة "ليس بالضرورة إلى نقلة" روسية في الاستمرار بتوسّل الدبلوماسية. رغبة تردد الإدارة الأميركية أن أبوابها مفتوحة لها، لكن الارتياب بقي كما الالتباس على حاله. إذ انعكس ذلك في قرارها بنقل السفارة الأميركية مؤقتاً من كييف إلى مدينة لفيف على حدود أوكرانيا الغربية مع بولندا، كما تبدّى أيضًا في إلحاحها على وجوب مغادرة المواطنين الأميركيين أوكرانيا على الفور، وكأن الحرب واقعة لا محالة. أما التعليل في ذلك فيأتي في سياق الاستعداد لكافة الاحتمالات التي تعترف بأن مفاتيحها باقية بيد بوتين الذي يرى خبراء أنه حقق بمثل هذا الإقرار هدف "تقليص صورة" أميركا.