مع تفشي وباء كورونا على نطاق واسع في مدينة نيويورك، اضطرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومقرها في هذه المدينة الأميركية، إلى اتخاذ إجراءات تسمح لها بتبني قرارات ضرورية بأسرع ما يمكن وبأقل قدر ممكن من البيروقراطية. إذ لم يعد ممكناً في المدينة التي باتت مركزاً للوباء في العالم، أن تعقد اجتماعات لمؤسسات الأمم المتحدة، بما فيها الجمعية العامة، حتى لو بقي المبنى مفتوحاً نظرياً. وعلى عكس مجلس الأمن حيث عدد الدول الأعضاء فيه 15، ومقره نيويورك كذلك، فإنّ عدد الدول الأعضاء في الجمعية العامة هو 193 دولة. وهذا يجعل عقد اجتماعات للنقاش والتصويت على قرارات عن طريق تقنيات الاجتماع عن بُعد صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
وقبل البدء بالعمل في حالة الطوارئ بسبب انتشار كورونا وقرار الحجر الصحي والتزام المنازل، كانت الجمعية العامة تعقد اجتماعاتها بشكل دائم وعلى مدار السنة بحضور عشرات الوفود. وعلى الرغم من أنّ عمل الجمعية أصبح أبطأ أخيراً، إذ تم تأجيل عدد من الاجتماعات والقمم المهمة، إلا أنّه مستمر وإن كان يقتصر على الأمور الضرورية التي لا يمكن تأجيلها. ولهذا، كان من الضروري أن تجد الجمعية تقنية تسمح بأقل ما يمكن من الخطوات لتبني القرارات وبشكل عملي، وهو ما يتطلب التزام الدول وإدراكها أنّ حالات الطوارئ تتطلب تعاوناً واسعاً. وبدلاً من التصويت بنعم أو لا أو الامتناع كما هو الوضع في السابق، قرّرت الجمعية أن يكون التصويت عن طريق ما يعرف بـ"إجراء الصمت"، أي إن لم تعترض أي دولة وترسل رسالة لرئيس الجمعية بذلك خلال الفترة المحددة، فإنّ القرار يُتبنّى.
وبموجب القرار الذي اتخذ في الـ27 من شهر مارس/آذار الماضي تحت عنوان "إجراءات اتخاذ قرارات الجمعية العامة خلال جائحة كورونا 2019 (كوفيد 19)"، فإنّ رئيس الجمعية العامة وبعد تشاور مع اللجنة العامة، يبعث برسالة تنصّ على مشروع القرار الذي تقترحه دولة أو أكثر، لجميع الدول الـ193 الأعضاء في الجمعية. ويمهل تلك الدول مدة محددة، على الأقل 72 ساعة، فإذا لم تكسر أي منها الصمت، أي لم تبعث رسالة اعتراض ببلوغ الساعة المحددة، فهذا يعني أنّ القرار تم تبنيه. اللافت في الإجراء أنّ صوت دولة واحدة يمكن أن يحول دون تبني القرار. ويشبه هذا الإجراء الاستثنائي الخطوات التي تتخذ في مجلس الأمن في العادة بخصوص تبني البيانات الصحافية أو الرئاسية الصادرة عن المجلس، والتي تعمل بالمبدأ نفسه، ولكن ليس في ما يخصّ قرارات مجلس الأمن.
في العادة، تتبنى الجمعية العامة قراراتها المتعلقة بالمسائل المهمة، كالسلم والأمن، وقبول عضوية دولة جديدة، وقضايا الميزانية، بموافقة أغلبية ثلثي الدول الأعضاء في الجمعية، فيما بقية القرارات الأخرى بتصويت الأغلبية البسيطة. ويسمح الإجراء الجديد أن تصوّت الجمعية العامة على قراراتها أثناء الوباء عن طريق "إجراء الصمت"، إلى أن تعود للاجتماع في القاعة، ومعها إلى القواعد السابقة. وسيبقى العمل عن بُعد سارياً في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك حتى نهاية شهر مايو/ أيار الحالي.
واللافت في طريقة العمل الجديدة، أنّها مكّنت الجمعية العامة من الاستمرار بعملها على الرغم من التحديات، وتبنّت بالفعل عدداً من القرارات والإقرارات. كما أثبتت طريقة العمل هذه إمكانية تعاون الدول بشكل أكبر تحت مظلة الجمعية العامة، وإدراكها حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها وضرورة أن تصل إلى حلول وسط بشكل أسرع. ولعل ذلك يعود لتركيبة وطريقة عمل الجمعية العامة، إذ تشكل تمثيلاً أكثر ديمقراطية لدول العالم؛ صوت واحد لكل دولة. في المقابل، فإنّ مجلس الأمن فيه 15 دولة فقط، كما يُسمح باستخدام الفيتو من قبل الدول الخمس دائمة العضوية؛ روسيا والصين وأميركا وفرنسا وبريطانيا، وهو يعكس ميزان القوى بعد الحرب العالمية الثانية ونفوذ الدولة الغنية أو قسم منها.
وعلى الرغم من أنّ صوتاً واحداً يمكن أن يحول دون تبني مشروع قرار (مقررات) أو قرار رئاسي ما، تحت إجراءات العمل بزمن كورونا، إلا أنّ الجمعية العامة تبنت عدداً من القرارات الرئاسية أو الإدارية، كتأجيل عقد قمة ما أو تجديد تمويل عمل بعثة ما. كما تبنّت عدداً من القرارات المهمة من بينها أكثر من قرار حول انتشار فيروس كورونا، في الوقت الذي لم يتمكن فيه مجلس الأمن إلى الآن من تبني أي قرار بهذا الشأن. بل إنّ البيان الصحافي الصادر عن المجلس أظهر الفجوة بين مواقف الدول.
ومن أبرز القرارات التي تبنتها الجمعية العامة حول كورونا، قرارها حول التعاون الدولي من أجل ضمان الحقّ في الوصول إلى الدواء واللقاح والمستلزمات الطبية الأساسية للجميع حول العالم. كما أصدرت قراراً آخر حول "التضامن العالمي لمكافحة فيروس كورونا"، أكدت فيه التزامها بالتعاون الدولي وتعددية الأطراف ودعمها القوي للدور المحوري الذي تضطلع به منظومة الأمم المتحدة في التصدي لجائحة كورونا على الصعيد العالمي. وشدّدت على ضرورة الاحترام التام لحقوق الإنسان. ودعت إلى "تكثيف التعاون الدولي لاحتواء الجائحة والتخفيف منها ودحرها، بما في ذلك عن طريق تبادل المعلومات والمعارف العلمية وأفضل الممارسات وتطبيق المبادئ التوجيهية ذات الصلة التي توصي بها منظمة الصحة العالمية".
ولا شكّ في أنّ هذه الطريقة في التصويت جيّدة لحالة الطوارئ، ولتسيير أمور مختلفة ضرورية، لكن تبقى محدودة، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بقرارات شائكة قد تحتاج تفاوضاً لوقت أكبر. وتعطي هذه الآلية "حق النقض" لكل الدول، مما قد يعني أنها ليست إلا مسألة وقت قبل أن تبدأ الخلافات السياسية الموجودة على الساحة الدولية بالانعكاس على نتائج التصويت. وبالفعل، بدأت الدول تعترض بشكل أكبر على مشاريع القرارات، وهو ما ظهر في ثلاثة قرارات لم تتبنّها الجمعية العامة.
وقد كسرت كل من سورية وإيران إجراءات الصمت حول مشروع قرار قدمته السعودية ودول أخرى متعلق بكورونا. وركز القرار السعودي على مخرجات قمة مجموعة العشرين التي عقدت برئاسة السعودية أخيراً، وأشار إلى أهمية التنسيق بين الدول بغية التصدي للوباء وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والصحية. كذلك، كسرت كل من الولايات المتحدة ودول في الاتحاد الأوروبي، إجراءات الصمت حول مشروع قرار روسي آخر بشأن الوباء. وركزت روسيا في مشروع قرارها على الامتناع عن تطبيق تدابير محلية تمييزية تخالف قواعد منظمة التجارة العالمية. وكان هذا مشروع القرار الثاني الذي تقدمه روسيا ويتمّ إفشاله. وطالبت موسكو في مشروعها برفع العقوبات الدولية بغية تسهيل إجراءات مكافحة كورونا، لكن الولايات المتحدة وإسرائيل وكوريا الجنوبية إضافة إلى دول في الاتحاد الأوروبي أبدت اعتراضها.