ليست المعارضة السياسية والمدنية والهيئات الحقوقية من رفضت هذه القوانين الضارة فحسب - ففي الغالب تعتبر السلطة أن لا معنى لمواقف هذه الأطراف - بل القضاة أنفسهم؛ نقابة ونادٍ، أيضاً، وهم جهة إنفاذ القانون وتسليطه على المخالفين. وقد كان هؤلاء أكثر صرامة، وأشدّ حزماً في الاعتراض على هذه القوانين، التي وصفها نادي القضاة "بالركيكة وتهدد الحريات"، ووصفتها نقابة القضاة بأنها "تعدٍ فاضح على الشرعية الجنائية".
هناك ما يبرر المخاوف. ففي العهد السابق، كان ثمة بند فضفاض ومطاطي في قانون الانتخابات يشير إلى من هم "خطر على النظام العام"، استخدمته السلطة والأجهزة، أمنياً وإدارياً، في إقصاء كل من ترغب في استبعاده من العملية الانتخابية، من دون أي تفسير أو تبرير، إذ كان ذلك البند موجود في القانون من دون توصيف دقيق ومحدد لمعنى "خطر على النظام العام". وفي حال اعتبار أي شخص كذلك، فيفترض به أن يكون في السجن وليس مشروع مرشح للانتخابات.
بهذه الطريقة، تمكّنت السلطة من تصفية الكثير من حساباتها مع المعارضين سابقاً. وبالقدر نفسه، باتت تملك السلطة الحالية الآن في قانون العقوبات أدوات التصفية نفسها؛ عبر بنود فضفاضة يمكن أن تسري على أي أحد أو مجموعة، في أي مكان وتحت أي ظرف، ما دام القانون لم يحدد بدقة كيف تقوم جريمة "المساس بالنظام العام "، و"الأمن العام"، ولم يبين صور الاعتداء على "الوحدة الوطنية"، و"المساس باستقرار المؤسسات". بحيث يمكن أن يكون مجرد النية في تجمع سلمي "مساس بالأمن العام"، ورفع راية تطالب بالديمقراطية والدولة المدنية "مساس بالنظام العام"، وانتقاد أي من مؤسسات الدولة "مساس باستقرارها".
لا يمكن تناسي أنّ السلطة السابقة بكل أجهزتها، وجزء منها هو نفسه حالياً، كانت تعتبر ترشح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة "مصلحة وطنية"، وأنّ الاعتراض على ترشحه "مساس بالأمن والنظام العام"، والتظاهر ضده "تهديد للوحدة الوطنية".
وبغضّ النظر عن خطورة هذه التعديلات على الحريات في المرحلة المقبلة، ومن حيث إطلاق يد الأجهزة الأمنية، لا تقدّم السلطة مبرراً واحداً يفسر هذا الاستعجال في طرحها الآن. وهنا المدخل الكبير للريبة في نوايا السلطة، وما إذا كانت الأخيرة ترتب الطاولة بالشكل الذي تريد لمرحلة ما بعد كورونا، منعاً لعودة الحراك الشعبي إلى الشارع ووضع الجميع قيد التهديد بالاعتقال، وردع كل أشكال المقاومة المحتملة لمسودة التعديلات الدستورية الجديدة.
لا يبدو أنّ السلطة تقرأ الواقع بشكل جيد، أو استوعبت بما يكفي درس فبراير وطموحات الجزائريين. تحرث السلطة الجديدة في مزارع الريبة، بدلاً من طرح ما يعزز الثقة بها، لأنه عندما يتزامن طرح هذه القوانين مع استدعاء خطاب متشنج ضدّ الصحافة، ومع منع برامج تلفزيونية لمضمونها السياسي الساخر، يصبح الحديث عن "الجزائر الجديدة" صعب الإقناع. منشأ أي تحول ديمقراطي هو إشاعة حق الرأي والحريات المسؤولة. والجزائريون لم يخرجوا في فبراير، إلا لأنهم شعروا بأنّ كيانهم الحرّ بات مهدد باسم الدولة.