بعد عمليات بحث طويلة وتحليل للحمض النووي الخاص برفات نُبشت في إسبانيا، باتت ماريا خوسيه بيكو روبليس على قناعة بأن شقيقتها التوأم واحدة من عدد كبير من "الأطفال المسروقين" في عهد نظام الديكتاتور الإسباني الجنرال فرانشيسكو فرانكو (1939 - 1975).
وتشير روبليس، البالغة من العمر 60 عاماً، والتي تعمل في مستشفى، إلى الحفرة الجماعية في مقبرة أليكانتيه (جنوب شرق)، موضحة أنه كان من المفترض، بحسب الرواية الرسمية، أن تكون أختها مدفونة هناك.
وتروي روبليس، لوكالة فرانس برس: "أُبلغَت والدتي بأن شقيقتي توفيت بعد يومَين من ولادتها (في عام 1962) ولم يُسمح لها برؤية جثمانها ولا بدفنها". ومنذ نحو عشرة أعوام، عندما كُشفت أولى قضايا "الأطفال المسروقين" في البلاد في زمن فرانكو، سيطر "الشكّ" و"القلق" على روبليس ووالدَيها، وراحوا يتساءلون عن احتمال أن يكونوا هم كذلك ضحايا هذه الفضيحة. وبدأوا بجمع الوثائق المشوبة بالمخالفات، قبل اللجوء إلى القضاء الذي أمر في عام 2013 بنبش الرفات في القبور.
ومنذ ذلك الحين، تتابع روبليس، التي ترأس جمعية مكرّسة لـ"الأطفال المسروقين"، بحثها بلا كلل. فقد أودعت حمضها النووي في عدد من بنوك الوراثة، على أمل أن تكون أختها شكّكت في أصولها وفعلت الأمر نفسه. وتقول إنّ "الحمض النووي هو أملنا"، لافتة إلى أنها تصلّي لتلقّي مكالمة في يوم ما من أحد المختبرات.
"جينات الماركسية"
وفي هذا الأسبوع، أقرّ مجلس الشيوخ الإسباني نهائياً نصاً أساسياً للحكومة اليسارية يعترف للمرة الأولى بالمواليد الجدد الذين انتُزعوا وخُطفوا من عائلاتهم خلال الحرب الأهلية (1936 - 1939) والديكتاتورية (1939 - 1975) كـ"ضحايا لنظام فرانكو".
وفي خلال القمع الذي تلا النزاع، كان الهدف من تلك السرقات التي صارت جزءاً من المؤسسة انتزاع أطفال من نساء جمهوريات متّهمات بنقل "جينات" الماركسية إليهم. لكنّها طاولت بعد ذلك، ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي، المولودين في خارج إطار الزواج أو لأسر فقيرة أو عديدة الأفراد.
وفي معظم الأحيان، وبتواطؤ من الكنيسة، كانت تُعلَن وفاتهم بعد الولادة من دون تقديم دليل للوالدَين، ثمّ يُصار تبنّيهم من قبل أزواج غير قادرين على الإنجاب ومقرّبين بشكل ما من النظام "القومي الكاثوليكي" بقيادة فرانكو. وبعد وفاة الأخير في عام 1975، استمر الاتّجار بالأطفال لأغراض مالية خصوصاً، حتى عام 1987 عند إقرار قانون يعزّز الرقابة على التبنّي.
كذلك، سُجّلت سرقات مماثلة في ظلّ الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين أو في عهد الديكتاتور أوغستو بينوشيه في تشيلي. ففي الأرجنتين، تُقدّر منظمة "جدّات ساحة مايو" عدد الذين وُلدوا لأمّهات مسجونات وسُلّموا بطريقة غير قانونية إلى أشخاص آخرين بأقلّ من 500 طفل.
وفي إسبانيا، لا تقديرات رسميّة متوفّرة لعدد "الأطفال المسروقين"، لكنّ الجمعيات المعنيّة بالضحايا تشير إلى آلاف الأطفال.
إلى جانب ذلك، تفيد تقديرات للقضاء الإسباني في عام 2008 بأنّ أكثر من ثلاثين ألف طفل من أبناء جمهوريين لقوا حتفهم أو أُسروا خلال الحرب الأهلية، وقد يكون بعض منهم قد "سُرق" ووُضع تحت وصاية عائلات، بقرار من دولة فرانكو في الفترة الممتدة ما بين عامَي 1944 و1954 وحدها.
بيع لقاء 725 يورو
وكانت 2136 دعوى قد قُدّمت في هذا الإطار في إسبانيا ما بين عامَي 2011 و2019، لكنّ أيّاً منها لم يفضِ إلى نتيجة بسبب تقادم الوقائع. وعلى الرغم من تعثّر المسألة أمام القضاء، تمكّن عدد ضئيل جداً من الإسبان، من أمثال ماريو فيدال، من العثور على آثار عائلاتهم فيما يشبه المعجزة.
ويقول فيدال، البالغ من العمر 57 عاماً، لوكالة فرانس برس: "أخبرني والدي بالتبنّي بأنّهم دفعوا 125 ألف بيزيتاس (725 يورو) ليتبنّوني". يضيف هذا الفني والمهندس المعماري المقيم في دينيا جنوب شرقي إسبانيا أنه بدأ في عام 2011 البحث عن والدَيه البيولوجيَّين. وقد أجرى أبحاثاً على مدى ثلاثة أعوام في أرشيف وثائق منطقة مدريد حيث وُلد، فتمكّن من معرفة اسم والدته، غير أنها كانت قد توفيت قبل 16 عاماً. ويؤكد فيدال: "كان أحد أصعب أيام حياتي"، مشيراً إلى أنه ممزّق ما بين "الشعور بالرضا" بمعرفة أصوله و"الضربة القاسية" التي شكّلتها معرفته بوفاة والدته البيولوجية.
وكانت والدته، وهي من عائلة محافظة جداً، قد أنجبته عندما كانت تبلغ من العمر 23 عاماً خارج إطار الزواج. وتكشف وثيقة رسمية أنها تخلّت عنه، لكنّ قريباً له أبلغه بأنها حاولت مرات عدة استعادته من دار الأيتام، لكنّها مُنعت من ذلك، بل وسُجنت بسببه. بعد ذلك، تمكّن فيدال من العثور على أخيه غير الشقيق الذي توفي بعد ثلاثة أعوام، لكنّه لا يعرف حتى اليوم من هو والده البيولوجي. ويتابع: "نحن أبناء حقبة، كان الذين يتولون السلطة فيها يمارسونها مثلما يحلو لهم".
(فرانس برس)