يُعَدّ سجن صيدنايا مسلخاً بشرياً تُمارَس فيه أفظع أشكال عمليات الترهيب والقتل في حقّ معتقلين سوريين، وقد قُتل بالفعل في هذا السجن ما يزيد عن 30 ألف شخص، في حين تستمرّ عمليات القتل والإعدام ثمّ الدفن في مقابر جماعية.
كشفت "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" في تقرير سردت فيه تفاصيل تستند إلى معلومات من معتقلين سابقين ومنشقين عن النظام السوري؛ تفاصيل عن البنية الإدارية والتنظيمية في سجن صيدنايا وتسلسل القيادة والأوامر فيه، وذلك بدءاً من مرحلة دخول المعتقل، ومروراً بمتاهة الموت في داخل هذا السجن الواقع في محافظة ريف دمشق (جنوب غرب) والذي يُعَدّ الأكثر شهرة في سورية، وصولاً إلى الخروج منه الذي يُعَدّ ولادة جديدة وهروباً من الموت.
والتقرير الذي صدر أمس الإثنين في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 2022 تحت عنوان "الهيكلية الإدارية لسجن صيدنايا وعلاقاته التنظيمية"، يورد تفاصيل التسلسل القيادي في السجن للمرّة الأولى، كاشفاً المسؤولين عن ارتكاب عمليات التعذيب والقتل الواسعة والممنهجة للمعتقلين في صيدنايا، والتي ترقى إلى جرائم إبادة وجرائم ضدّ الإنسانية. كذلك يصف مخطط السجن ودفاعاته وهيكله الإداري بالتفصيل، وعلاقته ببقيّة أجهزة الدولة ومؤسساتها الأمنية، ويوضح كيف حُصّن عمداً لصدّ الهجمات الخارجية المحتملة وقمع المعتقلين في داخله.
في هذا الإطار، يتحدّث دياب سرية الذي شارك في تأسيس "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" والمعتقل السابق في السجن عن تراتبية الإجرام فيه وعن الأشخاص الذين يتوجّب تقديمهم للعدالة. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "المسؤولية الكبرى تقع على مدير السجن، وهو الشخص الأوّل للمساءلة، ثمّ باقي الضباط في المناصب القيادية بالسجن، من أمثال ضابط الأمن في البناء الأحمر وضابط الأمن في السرية الخارجية. ويمكن تقديمهم للمحاكمة في حال خروجهم أو حدوث أيّ انتقال سياسي، كونهم مسؤولين بشكل أو بآخر عن آليات عمل السجن وعمليات القتل".
والمبنى الأحمر هو القسم "الأكثر دموية"، بحسب ما يؤكد سرية، مضيفاً أنّه "بالنسبة إلى القطاعات، فإنّ مفارز الأجنحة هي الأكثر دموية، وهي الكبرى لجهة العدد والأكثر همجية ووحشية، وهي على احتكاك مباشر مع المساجين في البناءَين الأحمر والأبيض، أي القسمَين اللذين يُصار فيهما إلى تطبيق العقوبات وعمليات التعذيب، إذ يدخل السجانون إلى المهاجع وينفّذون هجمات واعتداءات واسعة ومنهجية".
وبحسب ما يضيف سرية، فإنّه بعد عملية الاعتقال، فإنّ المعتقل إمّا يُنقَل من الفرع مباشرة إلى السجن، وإمّا يُسلَّم عن طريق الشرطة العسكرية في القابون لتنقله هي إلى السجن. وبخصوص نقل الجثث، يقول سرية إنّه "في اليوم التالي لعملية الإعدام، تأتي سيارة من إدارة الخدمات الطبية في مستشفى تشرين، وتنقل الجثث من السجن إلى المقابر الجماعية. وقد حدّدنا ثلاث مقابر جماعية هي نجها والقطيفة ومكان في منطقة قطنا". ويشير سرية إلى أنّ "تعيين مدير السجن يتمّ من قبل النظام السوري اعتماداً على شرطَي الطائفة والولاء معاً".
من جهته، يتحدّث شادي هارون وهو مدير برامج في "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" وأحد الناجين من السجن لـ"العربي الجديد"، عن الإجراءات اللازمة لتفعيل عملية ملاحقة المجرمين وتسليمهم للعدالة. ويشرح أنّ "الشقّ القانوني المتعلق بتقرير هيكلية سجن صيدنايا، يسمّى التحقيق الابتدائي، وهو عملية يقوم بها قاضي تحقيق. أمّا عملية الإحالة فهي التي تمثّل الفرق ما بين قاضي التحقيق والمنظمات الحقوقية والقانونية. وعملية الإحالة التي يقوم بها عادة قاضي التحقيق، والتي تسعى الرابطة إلى القيام بها، يُصار خلالها إلى تقديم أدلة للمدّعين العامين الذين يملكون سلطة أو ولاية قضائية لاستكمال إجراءات الدعوى. والعمل الأهم هو عملية التعاون مع الجهات الأممية التي تتعامل مع الملف السوري من قبيل لجنة التحقيق الدولية التي اطّلعت بالفعل على تقرير الرابطة".
وبخصوص الإجراءات القانونية الفعلية، فهي تبدأ بحسب هارون بجمع الأدلة، ويضيف أنّ "الشقّ الثاني هو المناصرة المرتبطة بالتقرير التي تمثّل ورقة ضغط أمام الجهات الأممية العاملة في الشأن السوري". ويلفت إلى أنّ "مناقشة هذا التقرير جرت مع وحدة جرائم الحرب الهولندية لملاحقة الدور القضائي في هولندا وتفعيله مثلما حدث في ألمانيا بمحاكمة كوبلنز".
وشدّد هارون على أنّ "توقيت صدور التقرير يُعَدّ مهماً، إذ إنّ النظام السوري يعيش حالياً مرحلة تعويم سياسي في بعض المحافل الدولية، وهذا دليل إدانة بجرائم حرب وإدانة للأنظمة التي تحاول تعويم النظام".
ويشير هارون إلى أنّ "المنظمات السورية العاملة في المحاسبة لا تملك استراتيجية واضحة للتواصل مع المحاكم الجنائية والادعاء العام، وهي في حاجة إلى تقديم جزء كبير من الأدلة والمناصرة، ولا تعاون واضحاً في هذا الشأن لفهم جهة الادّعاء".
أمّا ياسر وهو من المعتقلين الذين تنقّلوا بين سجون عدّة لدى النظام السوري، فيقول لـ"العربي الجديد" إنّه عاش الموت خلال وجوده في سجن صيدنايا. ولا يخفي أنّه "في بعض الأحيان، شتمت بشار الأسد في خلال التعذيب حتى يقتلني السجّان للخلاص من العذاب الذي أعاني منه. فثمّة سجناء قُتلوا بعد لجوئهم إلى ذلك، لكنّ السجانين كانوا يتلذّذون بعمليات التعذيب وضرب السجناء بكابلات الكهرباء أو الكابل الرباعي التي يُطلى عادة بالزيت المعدني". ويلفت ياسر إلى أنّ "إحدى الندوب الناجمة عن تلك الكابلات ما زالت على ظهري علامة تذكّرني بالجحيم الذي عشته".