تنتظر نساء تونس مفاجأة عيد الفطر بشغف عادةً، وهي هديّة "حق الملح" كما يسمّيها الأجداد، تكريماً للمرأة على صبرها طوال شهر رمضان، وتولّيها شؤون العائلة، وبذل جهود مضاعفة في تحضير وجبة الإفطار خلال شهر الصيام. وعلى الرغم من هجر هذه العادة التونسيّة بسبب الأوضاع المعيشية المتردية، فإنّ العديد من العائلات ما زالت تحرص على الاهتمام بها.
وتتميّز أواخر شهر رمضان وفجر عيد الفطر في تونس عن غيرها في البلدان الأخرى من خلال هديّة "حق الملح"، التي يعيدها مؤرخون إلى الدولة الحفصية (سلالة أمازيغية حكمت بين 1229-1574م.)، وآخرون إلى بدايات الحكم العثماني في البلاد. ويحرص الرجال خلال هذه الفترة وحتى يوم العيد على تكريم زوجاتهم وربات البيوت، من خلال إهدائهن قطعة من المصاغ عادة ما تكون من الذهب أو الفضة أو من الحلي الثمينة، ويتم وضعها في أول فنجان قهوة يحتسيها رب البيت إثر صلاة عيد الفطر أو ليلة العيد. وترتبط تسمية "حق الملح" بقيام المرأة بتذوّق الطعام خلال شهر رمضان بطرف لسانها من دون مضغه، حرصاً منها على توازن ملوحته، ثمّ تُسارع إلى المضمضة بالماء بعد ذلك.
وتروي سندس عبدة (36 عاماً) حكاية عائلتها مع هدية حق الملح. استعداداً للعيد، كانت أمها، الحاجة فاطمة، تعمد إلى تنظيف البيت وترتيبه وتزيينه، ثمّ تعدّ الفطور صبيحة يوم العيد، ويشمل حلويات العيد والبيض المسلوق والقهوة، ثم ترتدي أجمل ثيابها. كما تحرص على أن يرتدي الأبناء ملابسهم، ثُمّ تنتظر قدوم زوجها الحاج بوبكر من صلاة العيد. تُتابع سندس في حديثها لـ"العربي الجديد": "بعد تناول فطور الصباح الشهي، تقول أمي لأبي: عيدك مبارك وكل عام وأنت بخير، فيجيبها أبي: ورأسك حي.. يخلّيك لينا، فتعقب أمي: بحياة راسك. ويضع والدي قطعة من المصوغ في فنجان قهوته بعدما ينهيه".
تضيف سندس: "تتناول أمي الفنجان بفرح وإعجاب في وقت واحد، وكأنّها لم تكن تنتظر الهدية ولا علم لها بموعدها السنوي. فتقول: ربي يباركلك فيهم ويكثرهم عليك، فيجيبها: ويباركلي فيكم. وكانت تلك إشارة إنطلاقنا لنغنم بدورنا ما تيسر من المهبة (العيدية)، فنرتمي في حضن أبينا الذي يضع في أكفنا قطعاً نقدية كانت تمثل ثروة لنا. كنا نشعر بالمودة والرحمة في الحوار الدائر بين أبوينا، ونشعر باعتراف والدي بجميل ما بذلت أمي من جهد مضاعف خلال شهر الصيام وفي ذلك الحر الشديد. هذه العادة لم تكن مجرد طقس لإظهار حب أبينا لأمنا وتقديره لها وتكريمها لبذلها فقط، بل كانت درساً في احترام المرأة وإكبار دورها وتثمين جهدها".
تتابع سندس: "لم تبخل أمي على أبي يوماَ. فلا أنسى أنّها باعت ما جمعت خلال سنوات من هدايا حق الملح وزينتها من ذهب لدفع تكاليف عملية والدي في المستشفى قبل أن يفارق الحياة". اليوم، تقول الوالدة: "ما نفع الهدايا في غياب صاحبها ولمن أتزين وصاحب الفضل قد رحل؟". تضيف: "كنت أحتفظ بها ليوم الشدة ولا حاجة لي بها الآن". وتوضح سندس: "يحرص زوجي على المحافظة على هذه العادة على طريقته. شخصياً، لا يهمني الثمن أو الحلي أو الذهب بقدر ما أفرح لقيمتها ورمزيتها. خلال رمضان الماضي، أهداني قارورة عطر، وقبل ذلك ساعة يد، وأنا متشوقة لمفاجأة هذا العام".
من جهته، يقول المؤرخ عبد الستار عمامو إن "حق الملح" تعد مبادرة رمزية تعبر عن اعتراف الرجال بدور زوجاتهم والسعي لتخفيف وطأة التعب المضاعف الذي تتكبده المرأة طيلة شهر رمضان، مشيراً إلى أن هذه العادة تعزز الروابط العائلية وتزيد من المحبة والألفة والمودة والرحمة. ويشجع عمامو رجال تونس للحفاظ على هذه العادة وإحيائها لتكريم زوجاتهم، لما فيها من معان نبيلة تعزّز التقارب الأسري وتعزز المحبة بين أفرادها.
بدوره، يقول أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية محمد عزير بن زكور لـ"العربي الجديد": "حق الملح عادة تتمثل في تقديم الزوج هدية لزوجته عرفاناً بجهدها المبذول وتعبها خلال شهر رمضان، وقد استمدّت رمزيتها من تذوق المرأة للطعام لقياس مقدار الملح فيه". ويتحدث بن زكور عن معاناة المرأة في إعداد الطعام على موقد تقليدي وفي طاجن فخاري وجلب الحطب وإشعاله والطهي في ظروف قاسية، مشيراً إلى أن هذا يعد أمراً شاقاً. كما يوضح أن "هذه العادة انحصرت بين الأثرياء (قبل الاستقلال)، إذ لم يكن سهلاً على الرجال اقتناء الحلي والذهب والفضة خلال تلك الحقبة التاريخية التي كانت تشهد تردياً للأوضاع المعيشية. وفي ظل انتشار تعدد الزوجات، كان يصعب إهدائهن جميعهن". ويسأل: "من يقدر اليوم على إهداء زوجته حق الملح في ظل الظروف التي تعيشها الأسر والعائلات التونسية؟".